استعصاء التغيير وعزلة المعارضين

استعصاء التغيير وعزلة المعارضين

10 يناير 2020
+ الخط -
دارت تغريدة الصحافي المغربي، عمر الراضي، والتي أودت به إلى المحاكمة والتوقيف العالم، إذ أعادت نشرها وسائل إعلام عالمية مؤثرة، منها صحيفة لوموند الفرنسية التي عنونت بها أيضا مقالها عن اعتقال الصحافي الشاب. عمر الراضي غرّد غاضبا قبل شهور، عندما أصدر القضاء المغربي أحكاما قاسية في حق معتقلي حراك الريف، وصولا إلى السجن عشرين عاما لشبان تظاهروا سلميا، مطالبين بحقوق اقتصادية واجتماعية للمنطقة المهملة. كان غضب عمر مماثلا لغضب شريحة كبيرة من الرأي العام المغربي، وما غرّد به نطق بلسان حالهم: لا مسامحة ولا نسيان لمن تسبب بالظلم الكبير لشبّانٍ نزلوا الشارع مطالبة بحقوقهم، وهم مثال لجيل بات زبونا رئيسيا لقوارب الهجرة غير الشرعية هربا من ضيق الحال في البلاد. في العالم العربي عشرات يتم استدعاؤهم يوميا أمام القضاء، لتغريدةٍ أو تعبير في "فيسبوك". المخرج السينمائي اللبناني، ربيع الأمين، استدعي إلى التحقيق، لشتمه في الفضاء الافتراضي مصرفيا قامر بمدّخرات المودعين، ليحقق أرباحا طائلة. الناشطة والصحافية اللبنانية، نضال أيوب، تواجه دعوى قضائية من "إعلامي" قام بالتشهير بها من دون محاسبة. في المغرب أيضا، يواجه الطالب أيوب محفوظ السجن ثلاث سنوات، بسبب "بوست" نشره في "فيسبوك"، يعيد فيه نشر أغنية الراب "يعيش الشعب" التي أثارت ضجيجا على "يوتيوب"، وباتت شعارا للغضب الشعبي من الفساد والمحسوبية والقمع في المملكة. أما مغني الراب، الملقب غناوي، فقد حكم عليه بالسجن عاما
بتهمة إهانة الشرطة لإنتاجه الشريط. شاب آخر يواجه السجن، لنشره فيديو على "فيسبوك" يشتم لغياب العناية الضرورية في أحد المستشفيات على الرغم من اعتذاره. عشرات يتم استدعاؤهم أو اعتقالهم يوميا لتعبيراتٍ مماثلة، باتت تصنف تهديدا للأمن القومي في أبجدية التضييق القضائي على المنتقدين. في حالات أكثر خطورة، تكتظ السجون المصرية بالمعتقلين ظلما في محاكمات شكلية أو بدونها. اقتيد بعض هؤلاء إلى المشانق من دون أدلّة تدينهم، ومع وجود أدلة كافية لتعرّضهم للتعذيب للحصول على اعترافاتهم. نقلت الصحافة الغربية أن الرئيس السابق، محمد مرسي، غاب عن الوعي قبل أن يفارق الحياة في الزنزانة، من دون أن يحرّك القاضي ساكنا لاستدعاء إغاثة طبية. 
لا جديد في ما قاله عمر الراضي عن استخدام القضاء سلاحا ماضيا للثورات المضادّة، إلى جانب الإعلام التقليدي في غالبيته العظمى في حرب الأخيرة ضد أي تغيير. لا جديد أيضا في حالة الصحافي الـذي يُلاحق بسبب تعليق في الفضاء الافتراضي. لا نسيان ولا مسامحة. ما قاله الصحافي الشاب عن المغرب، حيث مجال التعبير النقدي في أدنى مستوياته، ينطبق على العالم العربي، إلا أنه يختلف عنه في فرادة المشهد الإعلامي المغربي، حيث استثمار رجال الأعمال المقرّبين من القصر في الإعلام، وارتباط الأخير في شكل مباشر أو غير مباشر بـ"المخزن" حول التنوع الإعلامي الـذي ينسب إلى المملكة مجرد واجهة لترداد الخطاب نفسه في أشكال مختلفة. الأصوات الناقدة قليلة. تركت البلاد أو تم إسكاتها أو "تهذيبها"، بفعل الملاحقات القضائية أو التشهير أو الحصار الاقتصادي أو هذه جميعا. ما تبقّى من أصوات ناقدة باتت بالكاد مسموعة، وهي بحرصها على اتباع التقية في التعبير عن "النقد" واللعب على حبال الممنوعات باتت جزءا من النظام الزبائني العصي على التغيير.
في عملي البحثي في الأعوام الأخيرة، شكلت المجموعة الصحافية في المغرب الأضعف بين 
مثيلاتها في المنطقة في المبادرة من أجل الضغط للتغيير. في لقاء مع صحافيين في الرباط، احتج عديدون على الحديث عن ضعف قدرة الصحافيين على التضامن والمشاكسة في وجه الممنوعات العديدة، متحججين بسطوة البنى التي تتحكم بالإعلام. ولكن من يغيّر هذه البنى من دون حراك صحافي وحقوقي وتضامن المجموعة الصحافية؟ لا يمكن الحديث عن مجموعة صحافية في المغرب، إذ أنها، على تشابه مشكلاتها وتحدّياتها مع الصحافة في العالم العربي، تتميز بخصوصية وضعها لجهة التجاذب بين الخشية من العقاب والرغبة في الاستفادة من الامتيازات الكبيرة التي يجنيها الموالون مقارنة بمتاعب الناقدين. من أين يبدأ التغيير؟ في ظل غياب القدرة أو حتى الرغبة في التغيير لدى الغالبية العظمى من الصحافيين وغياب التضامن بين القلة القليلة من الأصوات الناقدة، سيبقى التغيير هديةً من النظام يقدّمها متى خدمت أهدافه، ويسحبها متى انتهت صلاحيتها.
حظي توقيف الصحافي عمر الراضي بتغطيةٍ إعلاميةٍ غير مسبوقة في الداخل والخارج. وقد يكون من فوائد الاهتمام الإعلامي بعث بعض الحياة في التضامن بين الصحافيين المغاربة، دفاعا أولا عن الأعداد المتزايدة من الموقوفين، بتهمة التعبير عن رأي مختلف أو التظاهر مطالبة بالحقوق، وثانيا والأهم إعادة احياء مهنةٍ باتت ملكا لغير أصحابها.
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.