إيران.. الردّ الغثّ والفِدية السمينة

إيران.. الردّ الغثّ والفِدية السمينة

10 يناير 2020
+ الخط -
تمّ واكتمل الرد الانتقامي الذي توعدت به إيران وحلفاؤها إثر اغتيال قاسم سليماني ورفاقه فجر الجمعة الماضي. انتقمت طهران باثني عشر صاروخاً لم توقع أي ضحية، وتسبّبت بأضرار مادية طفيفة فقط. هل ستشفي صفعةٌ، كما وصفها المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، استهدفت قاعدتين عسكريتين تضم قوات أميركية في العراق، فجر الأربعاء، غلّ الجماهير الإيرانية التي ذرفت الدموع، ونزفت الدماء، وقدّمت الأرواح خلال جنائز تشييع سليماني من بغداد إلى كرمان، مسقط رأسه ومثواه. وأين ذهبت تهديداتٌ توعدت واشنطن بفيتنام جديدة، وأخرى أوجزها الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، بـ13 سيناريو للرد "أضعفها سيكون كابوساً تاريخياً لأميركا".
ستخبرنا الأيام المقبلة إذا ما كان الرد الانتقامي الغثّ يشبع مقاصد طهران وغاياتها التي كانت بحاجة للقصاص لحفظ ماء الوجه، ورد الاعتبار للكرامة الإيرانية التي أهانها ترامب بصلافة دموية فاجرة. احتاجت إيران الرد السريع، بغض النظر عما إذا كان غثّاً أو سميناً لإطفاء مشاعر الداخل المجروح ولطمأنة قياداتها العسكرية، زملاء سليماني، وهم بأشد الحاجة لما يرفع معنوياتهم بعد الصفعة التي تلقتها المؤسسة العسكرية. احتاجت طهران الرد الانتقامي كذلك للجم معارضةٍ داخليةٍ، كانت ناشطة خلال الأسابيع الماضية في أوساط الشارع الإيراني. أما إقليمياً، فتحتاج طهران الرد الانتقامي لطمأنة حلفائها. وفي المقابل، لجم خصومها الإقليميين برسائل واضحة مفادها بأن من يتجرّأ على طهران سيتم الرد عليه، حتى لو كان سيدكم أو حاميكم.
يظهر أن الأطراف التي هرعت للاتصال مع إيران بغية تطويق الموقف نجحت بإقناع طهران برد انتقامي مضبوط ومحدود ومتناسب، وربما بالتوافق مع واشنطن. ويمكن الاستنتاج كذلك مما تسرب من رسالةٍ تسلمتها طهران من واشنطن عبر السفارة السويسرية، ومن حجم الخسائر الضئيل الذي خلفته الصواريخ الإيرانية، وبرودة رد فعل الرئيس دونالد ترامب، أن الإدارة الاميركية لم تمانع في تلقي لطمة خدٍّ إيرانية انتقامية، شريطة أن لا تكون فادحة أو مهينة، وبذلك يتم الانتقام الإيراني بلا دماء، فلا جاع الذئبُ ولا ماتت الغنم.
بالنظر إلى مستوى رد الفعل الإيراني، يبدو أن قادة طهران فضلوا لعب الشطرنج مع واشنطن، بدلاً من لعبة "بينغ بونغ" كما قال أحد المراقبين، وفضّلوا الحصول على "فدية سياسية" محسوبة واستراتيجية على المدى البعيد، بدلاً من التورّط في رد انتقامي سريع ومتسرّع، قصير المدى. أما الفدية السياسية التي تتطلع إليها طهران لتعويضها عن دم قاسم سليماني، ونائب قائد الحشد الشعبي العراقي، أبو مهدي المهندس، فقد رسم حدودها ساسة إيران ما بين خروج كامل القوات الأميركية من العراق وإعادة تفعيل الاتفاق النووي كما كان قبل انسحاب واشنطن منه في مايو/ أيار 2018، مع ما يلحق ذلك من استحقاقات رفع الحصار والعقوبات المفروضيْن عن إيران.
مع أن طهران رفعت السقف عالياً بخطابٍ يطالب واشنطن بالخروج من كامل المنطقة، إلا أن طهران سترضى لو تحقق لها خروج أميركا من العراق فقط، وإطلاق يدها هناك كما كانت ترسم بعد سقوط نظام صدّام حسين. أما الفدية السياسية الأخرى التي تريدها إيران فتتعلق ببرنامجها النووي، وتحديداً عودة واشنطن إلى اتفاق (5+1) مع إعادة تفاوض شكلي، يؤدّي إلى تطبيع علاقات إيران مع المجتمع الدولي. أما الفدية السياسية الأخرى التي تريدها إيران فتخصّ الشأن الإيراني المحلي، ثم الإقليمي. وفي الحالتين، تريد طهران من واشنطن رفع يدها عن التدخل في الشأن الداخلي الإيراني، عبر تأجيج المعارضة ودعمها، وبموازاة ذلك التوقف عن تأجيج أطراف إقليمية ضد طهران.
يكشف سلوك إيران خلال الأسبوع الماضي، منذ اغتيال سليماني، أن طهران لم تكن تبحث عن انتقام متسرّع، قصير المدى، وغثّ الأثر، وإنما أرادت استثمار التهور الأميركي لحصاد مكاسب سياسية سمينة، وبعيدة المدى، واستراتيجية الأثر، تكافئ خسارةً فادحةً بحجم فقدان قاسم سليماني.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.