هل عدوّ عدوي صديقي؟

هل عدوّ عدوي صديقي؟

06 يناير 2020
+ الخط -
الغارة الأميركية التي قتلت قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، ومعه نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي، أبو مهدي المهندس، مفصلٌ خطير في الصراع القائم بين إيران وواشنطن. ومن الطبيعي أن كل فرد في منطقتنا الواقعة تحت رحمة هذا الصراع من العراق إلى سورية إلى لبنان إلى اليمن إلى فلسطين سوف يتلمّس رأسه، ويقف على أعصابه، منتظرًا المجهول، وما يحمل من وبال عليه وعلى المنطقة، المصابة أصلاً بهذا الوبال.
هذه العملية وما سبقها من استفزازاتٍ وتحرّشاتٍ من كلا الجانبين، ومن حربٍ معلنةٍ منذ عقود بينهما، لا يمكن اعتبارها إلا تصعيدًا لحربٍ تعصف في المنطقة منذ سقوط بغداد بعد الاحتلال الأميركي في العام 2003، وهي تفتح أبوابًا على أسئلةٍ كثيرةٍ، من المفيد أن تكون أسئلة القاعدة الشعبية في بلداننا، لضرورتها مفتاحا لصحوةٍ بتنا في أمسّ الحاجة إليها من أجل امتلاك زاوية نظرٍ مُجديةٍ فيما يتعلق براهننا ومستقبلنا، بعدما كانت الزوايا السابقة، بغالبيتها، مضللة وخادعة، تستند إلى الحشد والتجييش القائمين على الإيديولوجيات العريضة المضللة، أو العقائد المدمّرة، وأولها حصر العدو في طرف واحد، وربط كل متغيرات التاريخ وكل المشاريع المستقبلية في مجابهة هذا العدو باعتباره الشيطان الأكبر، القضية التي نشأت عليها أجيال في سورية والعراق وفلسطين ولبنان، أن أميركا وإسرائيل هما العدوان اللذان استنزفت طاقات شعوب هذه البلدان من أجل ردعهما، وعاشت تلك الشعوب عقودا خلت على وقع هذه القضية والجاهزية الحربية من أجلها، فرضيت بأنماط عيشٍ ترتبط بها، وتمضي على نبضها، ولم
 يتحقّق النصر، ولم تسترجع الحقوق المغتصبة، وسكنت الهزيمة وجدان العامة، حدّ انشغالها عن واقعها المظلم وركونها إلى حياة استنقاعٍ صحت فجأة، وأدركت ذاتها، وفي أي لجّةٍ تعيش، فانتفضت لاسترداد هويتها الإنسانية، وكان ما كان. وبناء عليه، كل من رفع شعار الموت لأميركا أو الموت لإسرائيل هو حكمًا صديق هذه الشعوب، ومدافع عن قضاياها.
تفرّعت عن هذه الفكرة التي ترسّخت في وجدان الغالبية مسألة أخرى، هي أن المؤامرة على الأوطان هي التي دفعت بالشعوب إلى التحرّك وإشاعة الفوضى. ولا تمتّ تحرّكاتها بصلةٍ إلى الثورات، إنما هي حركات أصولية عنفية، مدفوعة بأيادٍ خارجيةٍ، تهدف إلى السيطرة على الفضاء العام، وعلى مقادير الشعوب، وبسط سلطتها الدينية وشريعتها القائمة على القضاء على المختلفين عنها، وتطهير المنطقة من الأقليات الدينية أو الطائفية بشكل خاص، وزرع كيانٍ متوحّشٍ يمثل هذه العقيدة وهذا المشروع بصورة فجة صارخة، هو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وغيره من الفصائل التي تتفرّع عن التنظيم الأم القاعدة، فأدّت إلى إحداث شرخٍ شاقوليٍّ رهيب في وعي تلك الشعوب، ودفعها إلى اصطفافاتٍ سياسيةٍ بنوازع طائفية أو مذهبية أو قومية، ما وفّر للحرب ميدانًا رحبًا لتزداد رقعتها وشراستها.
هاتان العقيدتان كانتا المحرّك الأقوى لنوازع شعوب المنطقة، والوقود الأجدى للحرب التي دمّرت بلدانها، وشردت قسمًا كبيرًا منها. وانطلاقًا من هذا الواقع، يمكن فهم انقسام الرأي العام حول مقتل قاسم سليماني، فشريحةٌ كبيرةٌ هلّلت لمقتله، واعتبرته انتقامًا لما لحق بها من التدخل الإيراني السافر في الحياة والمقادير وإدارة الحروب التي قتلت وشرّدت، ورسم الخطط 
المستقبلية والتدخل في العمليات السياسية وفرض السياسات التي تخدم مشروعها، حتى لو كان المنفذ رئيس القوة الأعظم في العالم التي لم تقصّر، هي الأخرى، في قتل الشعوب، بقيادة تحالفاتٍ تدّعي فرض الأمن والاستقرار في منطقتنا، حتى لو قتلت مئات آلافٍ من شعوبها، وشرّدت أفرادها وجوّعتهم، كما يحدث في اليمن، وينسون قرارات رئيسٍ ضارب عرض الحائط بكل القرارات الدولية بشأن القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، وبشأن الأراضي التي يقرّ العالم بأجمعه بأنها محتلة، كما الجولان السوري، بسلوك البلطجية. وشريحة أخرى رأت في العملية اعتداءً فجًّا وفاجرًا على حليفٍ قوي، يرفع شعار العداء لأميركا وإسرائيل، وقدّم الدعم الكبير للمنطقة، بحجة القضاء على الإرهاب، متمثلاً بالنسبة إليهم بتنظيم الدولة الإسلامية وأقرانه.
بهذه القراءة السطحية لما تمر به المنطقة، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي حول الحدث، واندلعت نيران الحرب الافتراضية والقصف المتبادل واتهام التخوين، في وقتٍ أصبح للخيانة مفهوم آخر، بعد أن أصبح الشعب مقسومًا في تحديد من هو العدو ومن هو الصديق. وفي الواقع، أظهرت التجربة، خلال السنوات التسع من عمر الأزمة السورية، أن لا حليف ولا صديق لهذا الشعب، فجميع الأطراف ضالعةٌ في الحرب عليه، وسلبه أحلامه في أن يكون له وطنٌ، يعيش فيه بكرامته، ويحافظ على هويته الإنسانية. ولا تصح مقولة "عدو عدوي صديقي" على كل من يجاهر بعدائه إسرائيل من حولنا، وما أكثرهم.
لكلٍّ من الطرفين المتصارعين مشروعه الخاص، وكل منهما يخوض حربه بعيدًا عن أراضيه، 
فوق أراضينا ويستعمل شعبنا وقودها. ومن يفرح بمقتل قائد فيلق القدس، على الرغم من دوره الذي لعبه، ومن ثقله الوازن، حتى لو كان مقتله بقرار من رئيس يهوى البلطجة، ينسى أن سليماني فردٌ من نظام جبار متماسك إلى حد كبير، لا يترك الفرد فيه، مهما بلغ من شأن وجدارة في رسم سياسات النظام وتنفيذ مخططاته، فراغًا مكانه، لأن البديل متوفر ومؤهل مسبقًا، والاستراتيجيات واضحة والمشاريع نشطة. وقد قال قائد الحرس الثوري، حسين سلامي، إن جهاز استخبارات الحرس الثوري سيوسع من نطاق أنشطته الاستخبارية في الخارج، ومجال عمل الجهاز يتعلق بالنظام بأسره، والثورة الإسلامية، وجغرافية التهديد ضد إيران. وتابع "نحن في حرب استخبارية شاملة ضد أميركا اليوم، وهذه البيئة تضم مزيجاً من العمليات النفسية والإلكترونية والتحرّكات العسكرية والدبلوماسية العامة وبث الخوف". واعتبر أنه لا يجب على الحرس الثوري التخلي لحظة واحدة عن تحليل الاستراتيجيات والسلوكيات الأميركية، وما تحمله هذه الخطابات والتصريحات من برنامج عمل وخطط هادفة تدل على المشروع الإيراني، فإن قرار تصفية سليماني، على الرغم من أن الرئيس ترامب هو الذي أصدر الأمر بتنفيذه، إلاّ أنه تصرّف وفق صلاحياته الدستورية، وهو، في النهاية، يمثل سياسة دولة كبرى، دولة مؤسسات، لها أهدافها واستراتيجياتها، مهما تبدّل عليها من رؤساء، ربما يختلف الأداء في الأسلوب أو التكتيك، لكن السياسة الكلية واحدة، والفارق الواضح هو أسلوب الرئيس الحالي، البعيد كل البعد، عن الدبلوماسية الناعمة، أو حتى الفجّة، ولقد أدرجت الولايات المتحدة الحرس الثوري على قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية. ولن نكون نحن استثناءً بالنسبة إلى أي رئيس كان أو سيأتي.
بالنسبة إلى إيران، ينصّ دستورها على أن القوات المسلّحة، ومنها الحرس الثوري، لا تلتزم بمسؤولية الحماية وحراسة الحدود فحسب، بل تحمل أيضاً أعباء رسالتها الإلهية، وهي الجهاد في سبيل الله، والجهاد من أجل بسط حاكمية القانون الإلهي في العالم. وهذا يدفع إلى الإقرار بأن لها مشروعها الخاص الذي يشمل "جغرافية التهديد ضد إيران"، وهذه الجغرافية هي نحن، مثلما لأميركا مشروعها الخاص الذي تسعى إلى إقامته بادّعاء نشر الديمقراطية ونصرة الشعوب المظلومة، بينما هي تهيمن على مقدّرات الشعوب، وتسلبها حقوقها.
مفيدٌ لنا أن نتلمّس رؤوسنا، ونعرف أن مركبنا واحد، شعوب هذه المنطقة، وأن الحرب الموعودة التي يتوعد كل طرف فيها الطرف الآخر ستأتي على ما بقي من مقومات الحياة، ومن طموحنا وأحلامنا في بناء مستقبلنا، من سيدفع ثمن الدماء التي أريقت على أرض العراق وسورية واليمن؟ ربما لا تصل الحرب المستعرة بالفعل إلى تصعيد حدّ مواجهة كبيرة شاملة، لكن المواجهة، حتى لو محدودة، فإنها على أرضنا، حرب أقطاب وكسر عظم، نحن من يدفع ثمنها. وقد يكون التصعيد يهدف إلى جرّ إيران إلى طاولة المفاوضات من جديد، وترتيب العلاقات المستقبلية. ولكن بالنسبة إلى أميركا، ليس وجود إيران في المنطقة هو المطلب الأهم. الأهم بالنسبة لها تعرف كيف تحصل عليه، ولو كانت بالفعل القبلة التي ينظر إليها قسمٌ من شعوبنا المنتفضة المأمول منها تخليصهم من أنظمتهم القمعية التي انتفضوا ضدها، لأقدمت على تحقيق ذلك، فعندما يريد الرئيس ترامب يفعل ما يريد، ولا يهمه رأي عام عالمي، مثلما فعل باغتيال سليماني، وجعل العالم، حتى شعبه، يمسكون قلوبهم منتظرين الرّد. في وسع أميركا، ببراعة، انتشال الإبرة من جبل القش لو أرادت، أو سحب الشعرة من العجين من دون خسارة، لكنها لا تريد ما تريده الشعوب.