محنة اللجوء

محنة اللجوء

06 يناير 2020
+ الخط -
اللجوء يعني الاقتلاع، ليس الاقتلاع من أرض الوطن فحسب، بل هو اقتلاع من شبكة العلاقات الاجتماعية التي أنجزها المرء خلال عمره أيضاً، هو اقتلاع من حياته التي عليه بناء بديل آخر عنها في بلاد اللجوء. في اللجوء، يكتشف اللاجئ أن الشبكة الاجتماعية التي عاش فيها، ولم ينتبه إلى قوة روابطه بها، هي الأهم في تكوينه إنسانا تربى وترعرع في وسط اجتماعي وزمن تاريخي، وضمن مفاهيم اجتماعية محمولة على ثقافته ولغته الأصلية، وهو بالتالي ليس مفصولاً لا عن بيئته، ولا سلم قيمها ولا حتى لغتها الجدّية أو الساخرة، فالسخرية هي لعب على اللغة، تبقى عصيةً على اللاجئ في لغة بلاد اللجوء.
قبل اللجوء، يعتقد اللاجئ أنه فردٌ حر ومستقل. ويستطيع بوصفه فرداً أن يغادر المكان الذي ولد فيه، والتكيف مع الشروط الجديدة في البلد الجديد الذي لجأ إليه، لكنه يكتشف أنه يحمل معه تاريخه الشخصي والمجتمعي الثقيل، يحمل صلاته مع الجموع التي عاش وسطها، وأصبحت جزءاً من تكوينه الشخصي، أصدقاء الطفولة، المدرسة، الخدمة العسكرية، الجامعة، العمل... إلخ. فالفرد ليس فرداً مع الرحيل، تشدّه إلى مجتمعه، مهما كان هذا المجتمع ظالماً له، كتلة 
هائلة من الروابط، لا يدركها ويدرك أهميتها إلا عندما تنقطع هذه الروابط مع مكانه الأم. والفرد الذي صنع مكانته هو ذاته في مجتمعه، له هويته، مهنته، شجرة عائلته، صلاته الاجتماعية، كل هذه الروابط تُعرّف به، على الرغم من أزماته واحتجاجاته على الأوضاع الرديئة في بلده. هذا الفرد الذي يملك هويةً واضحة في بلده، هو ليس هو ذاته في مجتمع الآخرين، ومهما كانت مكانته الاجتماعية السابقة، يتحوّل إلى نكرة في بلاد اللجوء. هذا الشعور بفقدان المكانة هو الإحساس الأول الذي يداهم اللاجئ في المنفى، حتى لو كان هذا المجتمع أفضل، بالمعنى المعيشي للكلمة، وأكثر حماية له من المكان الذي غادره. بذلك لا ينتقل من مكانه المألوف إلى المكان الغريب الذي لا يعرفه فحسب، بل وينتقل من مجتمعٍ يعرفه، ويعرف كيف يعمل، وكيف تبني الناس علاقاتها الاجتماعية فيه، والمهن التي تشتغل الناس فيها، وطموحات الأطفال في بناء مستقبلهم، معتمدين على شخصياتٍ ملهمةٍ في وسطهم المجتمعي إلى مجتمع غريب، لا يعرفه، ولا يعرف كيف تبني الناس علاقاتها مع بعضها فيه، ولا كيف يعمل النظام، ولا ثقافة البلد الاجتماعية.
يضطر اللاجئ إلى رمي خبراته السابقة، بصرف النظر عن السنوات التي بذلها لتحقيق مكانته 
في مجتمعه، سواء كان أستاذاً جامعياً أو عامل تنظيفات، عليه أن يُعيد تأهيل نفسه وفق مقاييس المجتمع الجديد. تزداد وتتعمّق غربته في أثناء إعادة تأهيل نفسه، نجح في ذلك أو فشل، لأنه يكتشف أن روحه تُقتل في عملية الانصهار التي يفرضها البلد المضيف. هناك شيءٌ يموت في اللاجئ في المنفى، يحصل هذا بصرف النظر عن الشكل الذي يعامله فيه المجتمع المُستقبل له، سواء عامله بشكل جيد أو سيئ. وتتعمّق غربته أيضاً، عندما يكتشف أن الكلمات المترجمة نفسها لا تؤدي الغرض نفسه، ولا المعنى ذاته، ولا السياق ذاته في لغته الأصلية، وفي اللغة التي يستعيرها من منفاه، ليتكيف مع الواقع الجديد الذي وجد نفسه فيه.
اللجوء أنواع، فليس الذي يلجأ هرباً من أوضاع اقتصادية، مثل الذي يلجأ هرباً من الحرب، وبذلك تتفاوت قسوة المنفى بتفاوت قسوة الظروف التي دفعت الشخص إلى أن يذهب على هذا الطريق، فمن اختار المنفى بإرادته ليس كمن وجد نفسه مدفوعاً للهروب من موتٍ يلاحقه. ومن هرب من مكانٍ يستطيع العودة إليه ليس كمن هرب من مكانٍ لا يستطيع العودة إليه، لأنه مهدّد بالاعتقال، وهذا الأخير ليس كمن هرب من الموت، وتحطم المكان الذي هرب منه ولم يعد موجوداً. المنفى قاسٍ في كل الحالات، ولكن الأقسى، ذلك الهروب الإجباري من الموت لإنقاذ الأولاد والذات، لأن الموت على بعد خطوةٍ من الشخص، أو من أولادٍ بقذيفة هنا، أو بطلقة قناصٍ هناك، ويضطر هؤلاء إلى ركوب الموت للهروب منه، والكثير ممن خاضوا هذه 
التجربة، يشعرون أنهم داسوا على موتى مثلهم ليعبروا طريقهم إلى دول اللجوء، هذه الذكرى، التي تقول للاجئ، كان من الممكن أن يكون ذلك المصير الذي لقيه الآخر بالموت بالقصف، أو الغرق في البحر، أو القتل على طرق التهريب، هو مصيرك المحتمل. نجوت من الموت، لكن هذا النوع من الموت، النجاة منه ليست الكاملة، لأنه بعد قسوة التجربة، يكتشف اللاجئ أن الموت سكنه، بين الفترة والأخرى يرجع في كوابيس لا تنتهي، إنّ الموت الذي نجا منه لم ينج منه تماماً، هو يذكّره بنفسه طوال الوقت.
في بلاد اللجوء، هناك متعاطفون كثيرون مع مأساة اللاجئين. هم لا يفهمون لماذا يلاحق الموت هؤلاء، يرحّبون بهم في بلدانهم الجديدة، يتعاطفون مع مأساتهم، ويظهرون الشفقة. هذه الشفقة هي التي تؤذي اللاجئ، ومن دون أن يدري، المتعاطف عندما يشفق على اللاجئ قد وضعه في مكانةٍ أدنى منه. ومن هنا، تبدأ معاناة صعبة على أشخاص أجبروا على الهرب ولم يختاروه، المعاناة التي تفرض على اللاجئ أن يصبح جزءاً من المجتمع الذي لجأ إليه. وبعد قليل من الوقت، يصبح مطلوبا من هذا اللاجئ أن يتمثل الثقافة التي لجأ إليها، طبعاً لا تكون هذه المطالب من الموقع المعادي للاجئ، بل يفترض أنها جزءٌ من سياسات الاندماج في هذه البلدان، فيصبح هناك تنبيه للاجئ يقول ما تقوم به "ليس موديلاً ألمانياً" "ليس موديلاً فرنسياً" "ليس موديلاً سويدياً"... إلخ، ويصبح هؤلاء المتعاطفون لا يريدون تعليم اللاجئ اللغة الجديدة والثقافة الجديدة فحسب، بل يريدون تعليمه الحياة ذاتها أيضاً، وكأنه قادمٌ من الغابات، وليس له أي خبرات حياتية سابقة، قد تفوق خبراتٍ من يريد تعليمه الحياة بمسافة كبيرة.
في كل الحالات، اللجوء محنة، سواء نجح اللاجئ في الاندماج في المجتمع الجديد أو فشل، محنة تقول له إنه ليس من هنا، ولكنه لم يبقَ له هناك حتى يعود إليه.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.