رابحٌ وحيد في صفقة ترامب

رابحٌ وحيد في صفقة ترامب

01 فبراير 2020
+ الخط -
لم يكن الأمر بحاجةٍ إلى نباهةٍ شديدة لإدراك أن المؤتمر الصحافي الذي ضم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ورئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في واشنطن، الثلاثاء الماضي (28 يناير/ كانون الثاني)، كان بمثابة حفل تقديم هدايا من ترامب وإدارته إلى نتنياهو وشركائه، وأن الصفقة تم التوافق والتواطؤ عليها بين الرجلين، وأن رائدة هذه الخطة هي الاستجابة لمطالب ومزاعم اليمين الأشد تطرفا في تل أبيب، فيما وضعت قرارات الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة للاحتلال، ونقل السفارة إليها، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، الأساس المادي للصفقة، وأن المسألة كلها لا تتعلق بخطة سلام بين طرفين متصارعين، ذلك أن خطة كهذه تحتاج إلى وسيطٍ يتمتع بحدٍّ أدنى من الحياد والصدقية، وهو ما افتقر إليه كُليةَ الدور الأميركي الذي نهضت به إدارة ترامب، وقد صيغت الخطة، وتم الإعلان عنها، ومخاطبة الفلسطينيين بها على نحو جعلها مشروع إذعانٍ معروضا على الفلسطينيين، مقابل حفنة مال على هيئة مشاريع وفرص اقتصادية. وسوى ذلك، الخطة تقوم، في جوهرها ونصوصها، على شرعنة الاحتلال الاستيطاني والعسكري، وتمنح مباركةً مسبقةً لضم مزيد من الأراضي المحتلة إلى سيادة الاحتلال، بما يجعلها بالفعل مصمّمة كي يعترض أصحاب الشأن عليها. 
وتستحق الخطة أن توصف بالفعل بأنها حربٌ على شعب فلسطين، فهي تستثني اللاجئين، وتحرمهم من حق العودة، وتقصر الحقّ على بعضهم في العودة إلى المناطق الفلسطينية، خلافا لما يجري في خاتمة الصراعات والحروب بعودة المشرّدين إلى مواطنهم. وتسعى إلى نزع زهاء ربع مليون نسمة من أبناء المثلث الغربي من صفتهم، باعتبارهم من أبناء فلسطين التاريخية بإلحاقهم بدولة فلسطينية مزعومة. ولا تفتح الخطة أي بابٍ أمام عودة نازحي العام 1967 إلى ديارهم في الضفة الغربية، وبالذات إلى أراضيهم التي تمت مصادرتها أو أقيمت مستوطنات عليها. مقابل ذلك، تمنح الخطة لأبناء الضفة الغربية فرصة "التمتع" الأبدي بالتهديدات الإسرائيلية، حيث يقيمون في دولةٍ بغير جيش وبدون سيادة وبلا حدود ولا مجال جوي.
إلى الحرب المعلنة على شعب فلسطين، تمثّل الخطة تحدّياً وجودياً للمشرق العربي، فهي تحمل الأطراف العربية، بالترغيب والترهيب، على مغادرة التزاماتهم التاريخية الراسخة بالتكافل مع 
أنفسهم، ومع الشعب ضحية الصراع، وردّ التغول الإسرائيلي، وعلى تناسي القرارات الدولية، وعلى القفز عن قرارات القمم العربية، وعلى أن يهزأ العرب بأنفسهم بمبادرتهم للسلام المعروفة بمبادرة السلام العربية للعام 2002. وبهذا، تؤسّس الخطة لانقلابٍ عربيٍّ ذاتيٍّ على قيمٍ سياسيةٍ ووطنيةٍ وأخلاقيةٍ ودينية، نشأت عليها أجيال تلو أجيال، وقضى من أجلها ما لا يُحصى من عرب، وذلك منذ نحو قرن مضى. مع ما لذلك من انعكاسٍ على الثقافة العامة ونمط الحياة والنظرة إلى أنظمة الحكم، وإلى مفهوم الأخلاق والسياسة. وبحيث ينشط تطبيع متدرّج وكامل مع الطرف المعتدي، بعد مباركة فعلية لاعتدائه (قائمة على غض النظر وطي الصفحة)، وبعد التضحية بالقدس والمقدّسات. كما تنشأ شراكاتٌ اقتصادية وتفاهمات أمنية وتبادل تجاري يسمح للدولة العبرية باختراق ناعم وعميق للكيان العربي، مع نشر المزاعم التي تفيد بأن القضية قد وجدت خاتمةً لها بتحويل الفلسطينيين إلى عبيدٍ في أرضهم، وتهديدهم أو ترغيبهم بالرحيل، في حال إبداء الاعتراض الداخلي.
ويستند السعي الأميركي الإسرائيلي المشترك، في هذا المعرض، إلى تظهير إيران (النظام السياسي) عدوا وحيدا يهدّد المشرق العربي، ويستنزف طاقاته، إلى جانب الإرهاب، وأن تل أبيب ستقف شريكا للعرب في مواجهة هذا التحدّي. ويجد هذا التلاعب بالوعي والعقول سندا له في غياب رؤيةٍ جماعية عربية تحدّد المخاطر في ضوء دراسة الماضي القريب، وتفحّص الوقائع. وفي ضوء التمسّك بالحقوق العربية غير مجزوءة. وتنطوي الخطّة على مخاطر جمّة، من أشدها تأسيس أسبقياتٍ في التخلي عن حقوق ثابتة، والاستعانة بالخصوم على رد خصومٍ آخرين، بحيث تصبح القرارات المتعلقة بالمصير والمستقبل الجماعي بأيدي أطرافٍ أجنبيةٍ، ذات سجل عدائي صارخ، لا تمحض العرب أي احترام، وسبق لها أن استولت على حقوقهم.
ويغدو الأمر منطويا على مخاطر أكبر مع السعي إلى حمل أطراف عربية على تمويل الصفقة
 الإسرائيلية الأميركية. وبدل مطالبة الطرف المعتدي بأن يدفع تعويضاتٍ عادلة وفق خطة سلام عادلة للضحايا والمتضرّرين، فإن الصفقة تسعى إلى أن يدفع العرب لبعضهم بعضا ثمن تمرير الصفقة أو السكوت عليها، فيما تشرّع هذه الخطة الأبواب أمام اختراق اقتصادي إسرائيلي، سواء عبر السياحة إلى الأراضي المحتلة أو الدولة العبرية نفسها، وعبر صفقاتٍ بين ما لا يُحصى من مؤسسات حكومية وأهلية على الطرفين. وبالنظر إلى فارق الارتقاء التقني والتقدّم العلمي ومستوى التخطيط بين الجانبين، فإن لنا أن نتخيّل مدى التغلغل الإسرائيلي في المنطقة العربية في حال تمّ التخلي عن الطرف الفلسطيني في معارضته الخطة.
ويسترعي الانتباه أن ديناميات الصفقة، كما أوضحها ترامب، تمنح للفلسطينيين مهلة أربع سنوات (فترة ولايته الثانية المأمولة) للرد على الخطة، ولإنشاء مؤسّسات، وكأن السيد ترامب يخوض معركةً تفاوضيةً مع الطرف المعني، من دون أن تكون هناك مفاوضات فعلية. والغرض هو توفير مظلة للاحتلال الإسرائيلي، كي يشرع بموافقته على الخطة، في العمل بمقتضاها بضم مزيدٍ من الأراضي، وخصوصا في غور الأردن (ثلث مساحة الضفة الغربية)، وتعزيز سيطرته على القدس والأماكن المقدّسة وتشجيع النمو الاستيطاني. وذلك كله وغيره بغير حاجةٍ إلى موافقة الطرف الفلسطيني على الخطّة، ومن دون التفاتٍ إلى المعارضة المعلنة من سائر المكونات الفلسطينية.
ومن أسوأ ما يمكن أن يحدث هو وقوع تصدّعات في الموقف العربي الرسمي، لناحية الموقف من الصفقة، وسبل تسوية الصراع، وما يتبع ذلك من استقطابات ضارّة وغير ضرورية، بحيث يدفع العرب والفلسطينيون ثمن خلافهم على التعامل مع الصفقة التي تشقّ حينئذ طريقها إلى التنفيذ المتدرج، وذلك بدل توحيد الرؤية والجهد، لصدّ الخطة، والحفاظ على سلامة الكيان العربي بكل مكوناته، والتمسّك بحل جدّي ومتوازن عادل وفق ما تقتضيه القرارات والمواثيق الدولية ومبادرة السلام العربية.