مسلمو فرنسا على حافّة حرب "جماعاتية"

مسلمو فرنسا على حافّة حرب "جماعاتية"

29 يناير 2020
+ الخط -
بعد ثلاثين عاما من انطلاق حرب الحجاب والنقاب والبوركيني، تستعد فرنسا لحرب ضد "الجماعاتية الإسلامية"، أو ما يعرف بـ "Communautarisme islamique"، فحسب المتحدّثة باسم الحكومة الفرنسية، سيبيت ندياي، من الأرجح أن يَشْرَع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في بداية الشهر المقبل (فبراير/ شباط) في معركة بلا هوادة ضد "القوى التي تنخر الوحدة الوطنية". هذا في وقتٍ دخلت فيه إضرابات فرنسا شهرها الثاني، مطالبةً بسحب مشروع إصلاح نظام التقاعد، وتسبّبت سياسة كسر عظم "السترات الصفراء" في عشرات الجرحى، في أكبر حركة احتجاجية تشهدها فرنسا منذ أزيد من نصف قرن. يضع ماكرون جانبا كل الأزمات الحقيقية التي تشل البلاد، كي يخوض حربا هلامية ضد "الجماعاتيين". ويُعرّف هؤلاء بأنهم كل من يقول "أؤمن بالإسلام السياسي، إذن سنعيش حسب قواعده التي لا تخضع لقواعد الجمهورية". وفي حوار أجراه مع إذاعة RTL الفرنسية يوم 29 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، صرح ماكرون إن "نزعة انفصالية" قد توطدت في بعض أنحاء الجمهورية، وباسم الإسلام يريد الجماعاتيون التخلي عن العيش معا، داخل الجمهورية. ويعرّف الباحث الفرنسي، بيير أندري تاغييف، الجماعاتية، كما يراها أعداؤها، بأنها "مشروع اجتماعي وسياسي، يسعى إلى إخضاع أفراد مجموعة معينة لمعايير خاصة بهذه الجماعة، والتحكّم في آرائها ومعتقداتها وسلوك المنتمين إليها". 
وتشكل معركة ماكرون الجماعاتية تحوّلا جذريا في سياساته، بعد سنواتٍ من خطاب الاعتدال 
والانفتاح، ورفضه الانخراط في جدل اللائكية والحجاب والإسلام. بالأمس القريب، كان ماكرون يعبّر عن احترامه المرأة التي ترتدي الحجاب، ويرفض حظر هذا اللباس في الأماكن العامة، ويشدّد على أن احترام حرية الدين أو المعتقد كفيلٌ بأن يُبقي الفرنسيين متّحدين. كان ماكرون يحذّر أكثر من خطورة التطرّف اللائكي في بلاده، ويردّد إن الدولة لائكية، والجمهورية لائكية، ولكن المجتمع ليس كذلك. وهذا ما دفعه إلى أن يصبح أول رئيسٍ يحضر حفل إفطار رمضاني عام 2017، ويخاطب حشدا من المسلمين، بهذه العبارات: "لا أحد يمكنه أن يحاول إقناعكم بأن الإسلام لا يتوافق مع الجمهورية"؛ تصريحٌ جرّ عليه سيلا من الانتقادات، لم يمنعه من أن يضيف: "الجمهورية هي تلك الفضاء الساحر الذي يسمح للأشخاص أن يعيشوا بشغف دينهم". لم يكن ماكرون وقتها يُخفي إعجابه بنموذج بريطانيا وأميركا، وغيرهما من البلدان الأنغلوسكسونية التي تضمن دساتيرها وقوانينها التعدّد الثقافي وحرية المعتقد، ويناصر هذا النموذج مثقفو هذه البلدان، لأنه كما يقول الفيلسوف الأميركي جون رولز "لا يوجد الإنسان بمعزل عن انتماءاته الإثنية والثقافية والدينية"، فكيف ولماذا انقلب ماكرون على نفسه، وعلى قناعاته؟
الجواب يكمن في الصراع من أجل البقاء في السلطة، والخوف من أن يُثبِّت مسلمو فرنسا أقدامهم في الساحة السياسية، مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية المزمعة في مارس/ آذار المقبل، فالجدل بشأن خطر الجماعاتية الإسلامية ليس جديدا على المجتمع الفرنسي، بل يعود إلى الثمانينيات من القرن الماضي، حين عَلَّق حزب الجبهة الوطنية، اليميني المتطرّف، معظم مشكلات فرنسا على شماعة الهجرة والإسلام. ثم تبنّى اليسار الخطاب نفسه، وتحوّلت مشكلات الهجرة والذاكرة الكولونيالية إلى "خطر إسلامي"، ودعوات هستيرية إلى الدفاع عن اللائكية والجمهورية، وغيرها من المبادئ والقيم القابلة للنقاش.
الجديد في مسلسل "الخطر الإسلامي" هو دخول مسلمين فرنسيين حقل السياسة، للدفاع عن حقوق الملايين من عرب الضواحي ومسلميها. ويتعلق الأمر تحديدا بـ "اتحاد الديمقراطيين المسلمين الفرنسيين" الذي أسّسه سنة 2012 مهندس فرنسي من أصل مغربي، يدعى نجيب أزرقي. وقد خاض هذا الحزب الانتخابات الأوروبية السنة الماضية، على أمل أن يدخل البرلمان الأوروبي، لكنه حصل على 29.000 صوت فقط، أو ما يعادل 0.13% في عموم فرنسا؛ وهي نسبةٌ جد ضئيلة، لم تؤهله للفوز ولو بمقعد واحد. ومع ذلك، أزعج عددا من السياسيين، بحصوله على نسبة 6% في شمال البلاد، وسط الضواحي المهمّشة، حيث يعيش معظم الفرنسيين المنحدرين من أصول مغاربية وأفريقية، مقصيّين جغرافيا واقتصاديا واجتماعيا، ومطالبين بالاندماج.
واعتبر رئيس جهة أعالي فرنسا، كزافييه بيرتران، أن هذا الحزب يشكل خطرا على البلاد، ثم 
طلب من الرئيس ماكرون حظر لوائحه خلال الانتخابات البلدية المقبلة، ودعا الفرنسيين إلى تكوين جبهة جمهورية للتصدّي لخطر الإسلاميين الجماعاتيين، ونزعتهم الانفصالية. ولقي هذا النداء صدىً واسعا وسط أحزاب اليمين واليسار، ولو أنه، كما يقول الأكاديمي الفرنسي، فرنسيس مرماند، لم يعد هناك يسار في فرنسا، فقط "يمين اليمين ويسار اليمين". وقُدِّم للبرلمان مشروع قانونٍ يطلب حظر "اللوائح الانتخابية الجماعاتية"، ولكن الرئيس الفرنسي رفض هذا المشروع، وفضّل مجابهة ما أسماه "الوحش الإسلامي" عبر سياسة براغماتية تحارب الإسلام السياسي في كل مجالات الخدمات العمومية، من التعليم والصحة إلى العمل وتمويل الجمعيات. ويبدو أن الجدل بشأن النزعة الجماعاتية يهدف، في الأساس، إلى تقزيم دور حزبٍ جديد، يريد أن يخرج من الظل للدفاع عن حقوق المسلمين في فرنسا. ويُعرّف اتحاد الديمقراطيين المسلمين نفسه بأنه حزب لاديني، علماني، جمهوري، يتبنّى موروثا ثقافيا وتاريخيا، شأنه شأن الحزب الديمقراطي المسيحي الفرنسي الذي تترأسه كريستين بوتان. ويستنكر نفاق النخب الفرنسية التي لم تكترث يوما لوجود حزبٍ بخلفية مسيحية منذ العام 2001، ولم تدقّ يوما ناقوس الخطر حول "الجماعاتية المسيحية".
مشكلة الحزب الديمقراطي المسلم تكمن في دفاعه عن هويةٍ ترفضها مؤسسات الدولة الفرنسية ونخبها التي تطالب المسلمين بإخفاء مظاهر إسلامهم في الفضاء العام، للانصهار في المجتمع. ويتناول برنامجه مواضيع تشغل بال مسلمي الضواحي، بما فيها استفحال البطالة والفقر والتمييز في العمل والسكن والانحراف والهوية والإسلاموفوبيا، ما يؤهله لحصد أصواتٍ تمنح عادة لأحزاب اليسار. ويركز معارضو الديمقراطيين المسلمين على دعواتهم إلى تطوير البنك الإسلامي، وسوق الحلال، لإيجاد فرص عمل جديدة للشباب، وتدريس اللغة العربية في المؤسسات العمومية، وإعادة النظر في حظر الحجاب. وكل مطلب من هذه المطالب يغذّي تهمة "الانفصال" عن الجمهورية، ويشعل حربا ستدور رحاها في الانتخابات البلدية المقبلة، تحت رعاية ماكرون الذي يبحث عن مظلةٍ لنزول ناعم، الآن وقد تدنّت شعبيته إلى درجة أنه تم طرده وزوجته من مسرح باريسي.
شبح الحرب الجماعاتية يعيد إلى الأذهان رواية ميشيل ويلبيك التي تُصَوِّر فرنسا، بحلول 2022، تحت حكم حزبٍ إسلاميٍّ يشجع النساء على ترك العمل لخفض البطالة، ويُجبرهن على ارتداء الحجاب، ويسمح للرجال بتعدّد الزوجات، ويفرض تدريس القرآن في الجامعات. قصة حزب إسلامي يغير وجه فرنسا هي من وحي خيال الخوف من المسلمين الفرنسيين الذي يستغله السياسيون مطيةً في كل حملة انتخابية. ولكن ماكرون قد يجر البلاد إلى حربٍ أهلية، إن استمر في التحريض ضد مسلمي الضواحي الذين أصبحوا الآن يطالبون بحقوقٍ وحريات دينية ومدنية.
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري