عن طفلٍ مقدسيٍّ اسمه قيس

عن طفلٍ مقدسيٍّ اسمه قيس

29 يناير 2020

قيس أبو رميلة..عثر عليه في منطقة تجمعت فيها المياه

+ الخط -
لن ننسى اسمَه أبدا، وإن نسينا فسوف يتذكّر اسمَه الأطفال الآخرون الذين هم في سنّه، والذين تركهم ومضى. سوف يشيرون إلى بركة الماء التي سقط فيها، ويقولون بخوفٍ وألمٍ وحسرة: هنا تزحلقت قدم قيس؛ فغرق ومات. هنا أمضى، طوال الليل، في البرد والعتمة، وفوقه لوحٌ من الخشب. هنا أمضت سيارات الإنقاذ أكثر من عشر ساعات، لكي تشفط الماء من البركة، حتى ظهرت جثّته. هنا عجْزُ الكبار واستهتارُهم بأرواحنا. هنا كذبهم بأننا فلذات أكبادهم التي تمشي على الأرض، ولكنهم لم يمهِّدوا الطريق لها؛ فابتلعتهم بركة حقيرة، وانتهت حياتهم، قبل أن تبدأ.
كلُّنا نعرف تلك المساءات من يوم الجمعة، حيث يلتئم شمل الأسرة، بعد تناول طعام الغداء، وتكتشف الأم أن الخبز في مطبخها لن يكفي أمام شهية الصغار المفتوحة للعشاء، فالجمعة والاجتماع كفيلان بفتح شهيّة الجميع. ويعلن الأب أنه سيذهب لشراء الخبز، فيما تقترح الأم أن يذهب أحد الأبناء، فقد كبر، وأصبح يُعتمَد عليه، وهي لا تعرف أنها ترسله آخر مرّة، ولن يعود إلى البيت. ربما هي تطبّق نصيحة قرأتها بضرورة تعاون الأبناء، منذ صغرهم مع الوالدين، وربما تريد أن تتباهى أمام الأب أنَّ الابن الصغير قد كبر، وأصبح يُعتمَد عليه، وهكذا خرج الصغير قيس، وكفُّه مضمومة جيدا على ورقةٍ نقدية؛ ليبتاع الخبز وأشياء أخرى، من مكانٍ قريب، وقد أبدى حماسةً للذهاب، فهو يعرف الطرق والدكاكين. وهكذا خرج مزهوًّا بأنه سوف يسهم في إمتاع الأسرة بعشاء هانئ.
تزحلقت قدم قيس الصغيرة ببركة ماء، وهذه البركة لم يتم ردمها، لكي تصبح بارتفاع الشارع. ولهذا هي عميقة إلى درجة أن تبتلع طفلا إذا ما انزلقت قدمه على حافّتها. واختفى قيس ساعاتٍ، لكي تمر مدينته بتجربة بطولةٍ وشهامة، سوف يتحدّث عنها الكبار طويلا في مجالسهم، وسوف يذكرها العدو؛ لأنَّ السكان الغاضبين توجّهوا صوب أقرب مغتصبة، معتقدين أن الطفل قد تم اختطافه، مثلما حدث مرارا وتكرارا، فيما توجّه كثيرون من الشباب المقدسي نحو الغابات القريبة، متتبعين خيط نار مشتعلة من بعيد، وذاكرتهم تسترجع حادثة حرق الطفل أبو خضير مع عائلته.
ليلة شهامة ونخوة لا مثيل لها مرّت بها المدينة المقدّسة، وقد ذكّرني تتابع الأحداث وتواتر الإشاعات بفيلم "آخر الرجال المحترمين"، حين فُقدت طفلة في رحلة مدرسية من الصعيد إلى القاهرة، فكان المتَّهم الأول عائلة تضمر العداوة لعائلتها، ولكن سرعان ما أصبحت هذه العائلة تبحث عن ابنة الصعيد المختطفة مع والدها الملتاع وقرابتها. ولذلك كانت تساؤلات عن عداوة لأهل الطفل مع عائلة ما، وذلك لم يحدث، فالعوائل المقدسية لا تعيش إلا بمحبةٍ وتآخٍ مع بعضها بسبب طبيعة وجودها تحت تهديد الترحيل والتهجير، وبات همُّ كل عائلة هو همّ القدس بأكملها.
مع موعد صلاة ظهر الجمعة، كان الشيخ عكرمة صبري يدخل المسجد الأقصى، محمولا على الأكتاف، بعد قرار الاحتلال إبعاده، أربعة أشهر من دخول المسجد المبارك. وفي ساعات المساء، كانت هذه الأكتاف تنحني نحو الأرض، وتنبش تحت كل حجر بحثًا عن طفلٍ صغير. والطفل الصغير كان يرقد في قاع بركة الماء التي لم يلتفت إليها أحدٌ من المسؤولين خمسة عشر عاما؛ فأصبحت مقبرة للصغار والكبار، خصوصا أنها تقع في طريق المدارس، ولن يكون الطفل قيس آخر ضحاياها بالطبع.
حادثة غرق الطفل قيس، والبحث عنه قبل ذلك، قد تمرّ مرور الكرام في بلد آخر، لكنها في القدس تأخذ منحىً آخر، فأهل القدس لا يثقون بشرطة الاحتلال التابعين والخاضعين لسطوتها؛ فخرجوا للبحث عن الطفل المفقود، والمناطق العربية من القدس لا تحظى بنيتها التحتية بالاستعداد لفصل الشتاء؛ فتبقى هذه البركة كلَّ هذا الزمن، وكأن في أعماقها وحشًا أسطوريًّا يلتهم ضحاياه، رابضا في الأعماق، قبل أن يجفّ ماؤها، ويأتي الصيف، وتُنسى سيرتها، حتى يعود الشتاء الآخر مع قصة وجع ووهج مقدسية.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.