الزراعة والثقافة .. أو البطاطا والقصيدة

الزراعة والثقافة .. أو البطاطا والقصيدة

28 يناير 2020

عبّاس مرتضى .. وزير الزراعة والثقافة اللبناني

+ الخط -
حافظت النكتة اللبنانية، في كل العقود والعهود، على طزاجتها ولطافتها، وعلى جرأتها وتجرّؤها، وظلّت تبتكر تنويعاتِها مع اختلاف الأحوال والمستجدّات، وإنْ لم يشتهر عن إخوتنا اللبنانيين أنهم شعبٌ صاحبُ نكتة. ولكن، صار في الوسع أن يُقال إن النكتة اللبنانية تشهد تقدّما وتطوّرا ظاهريْن، أقلّه منذ صار تردّي الوضع العام يتسارع القهقرى في العقد الأخير. والحادثُ، منذ اشتعلت انتفاضة 17 أكتوبر، أن إبداع اللبنانيين في التنكيت على أحوالهم الراهنة، الصعبة حقا، وعلى أهل الحكم والسياسة في بلدِهم، صار إنجازا فنّيا مُضافا على ما ينتجه كتّاب البلد وفنّانوه من رواياتٍ وقصص وقصائد ولوحاتٍ وأغنياتٍ ومسرحيات. وقد ساهمت "السوشيال ميديا" كثيرا في التعريف بهذا الإبداع وإشهارِه، الإبداع الحقيقي الذي يجوز حسبانُه واحدا من أسلحة الجمهور العام ضد السلطة، لتُرمى هذه بالسخرية منها، بتسخيفها، بالضحك عليها ومنها. ولمّا كانت هذه السلطة، بمحاسبيها والتافهين فيها، لا ينفكّون يزوّدون الشارع اللبناني بأسبابٍ تدلل فيها على ركاكتهم وقلة الحياء فيهم، فإن الجمهور لا يتوقف عن اجتراح النكات الحادّة، الساخطة، الناقمة (المنتقمة؟)، يحاول فيها أن يوجِع هؤلاء، بالتبخيس مما يصنعون، وبالهزءِ مما يؤلّفون من حكوماتٍ، وبالضحك على من يستوزرونهم، وكذلك بشرشحتهم على ما يقولونه في خطبٍ أو على هذه الشاشات.
من وقائع أعطت فيها السلطة في لبنان أسبابا جديدةً للسخرية منها، أنها شكّلت حكومةً اجتمعت فيها طرائفُ غير قليلة، إحداها كانت بالغة الفرادة، استثنائيةً وغير مسبوقةٍ في أي بلد، وهي أن أحد الوزراء، واسمُه عبّاس مرتضى، يتولّى وزارتي الزراعة والثقافة. الرجل على ما صرنا نعرف عنه، وقد ضجّت مواقع إلكترونية وتدويناتٌ وتغريداتٌ غيرُ قليلةٍ بسيرته، كان مسؤول شؤون بلديةٍ في حركة أمل التي ينتسب إليها، الحركة التي صارت تحرص على أن تكون وزارة الثقافة من حصّتها، كما فعلت في الحكومة السابقة التي أسقطتها الانتفاضة. المفارقاتُ وفيرةٌ في جمع الزراعة والثقافة لدى وزيرٍ واحد، ما جعل الساخرين في "السوشيال ميديا" يعتبرون عبّاس مرتضى (39 عاماً) وزير البطاطا وقصيدة النثر، وزير البرسيم والكتاب، وهو الذي وعد بعدم التقصير في أيّ من الوزارتين، في حفل تسلّمه "الثقافة" من سلفه محمد داود الذي تحدّث، في المناسبة، عن تحقيق الوزارة، في أثناء مكوثه فيها، "بعض الإنجازات"، وأوصى بأن تهتم الدولة أكثر بالثقافة. والظاهر أن الوزير الجديد يستشعر وضعَه المُحرج، مسؤولا عن الزراعة في بلده، وهي قطاعٌ حيوي طبعا، وعن قطاع الثقافة الذي يبدو أن الدولة اللبنانية تراه عبئا عليها، وتتصدّق عليه بميزانيةٍ ضعيفة (قال الوزير السابق إنه تمكّن من خفض المصاريف)، فقد قال إن وزارة الثقافة مرتبطةٌ بجميع الوزارات. وليس واضحا، على أيّ حال، هذا الارتباط الذي جاء إلى خاطر الوزير، وهو يرتجلُ أي كلامٍ في حفل تسلمه مسؤوليته الطريفة هاته.
لقائلٍ أن يقول إن مبعث الاستغراب في تعيين وزيرٍ واحد للزراعة والثقافة في غير محلّه، فواحدةٌ من الوزيرات الستّ تقول إن الرئيس ميشال عون اختارها وزيرةً لصداقته مع زوجها. كما أن وزيرا تم ترشيحُه بداية للخارجية، ثم صار مطروحا لوزارة العمل، إلى أن استقرّت له وزارة البيئة. وقس على ذلك وزراء آخرين، ما يعني أن ما أُعطيه مسؤول قطاع البلديات في البقاع في حركة أمل، زراعةً وثقافةً، عاديّ في سياقٍ كهذا، في بلدٍ يتقاسم فيه السلطةَ والإدارةَ وجهاءُ طوائف، يوزّعون الحكم على بعض ناسِهم كما يريدون. وعبّاس مرتضى لا علم له أصلا بالزراعة وأحوالها في لبنان، وبما يغالبُه قطاعها من مشكلات، ليس من أهل الاختصاص في أمورها، فكيف إذن حسبوه من "التكنوقراط" الذين تلملمت الحكومة منهم. ولا معرفة للرجل بشؤون التنشيط الثقافي، والمسرح والسينما وصناعة الكتاب، وغير ذلك من شؤونٍ تتّصل بأهل الثقافة ومُنتجيها، أدباء ومفكرين وفنانين، وإنْ يحمل شهادة ماجستير في التاريخ.
المُحزن أن الحديث هنا عن لبنان، البلد الذي أضاف إلى لوحة الثقافة والفنون العربية ما يعصى على تعداده. وها هم أهلوه، ناسُه الغاضبون، الثائرون، يضيفون جديدا مُبهجا إلى فن السخرية، عندما يواجهون السلطةَ الفاسدةَ البائسة، في إبداعٍ رفيعٍ ينهضُ بفن النكتةِ الطالعةِ من أسىً غزيرٍ في النفوس والحشايا.

دلالات

358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".