ليرتهم .. كذبتهم

ليرتهم .. كذبتهم

26 يناير 2020
+ الخط -
لا تستطيع أن تميز الحدود الفاصلة بين المزاح والجد في الحملة التي انطلقت في الداخل السوري، وراجت بين مؤيدي النظام، لدعم العملة الرسمية التي تهاوت، في الآونة الأخيرة، بشكل دراماتيكي، حتى وصلت إلى معدلات هبوط قياسية، فانعكست سرعة هبوطها على شكل ردٍّ عنوانه "ليرتنا عزّنا".. الليرة في الواقع لم تعد تساوي شيئاً، إلا بعد أن تضيف ثلاثة أصفار على يمينها لتعادل بالكاد دولاراً واحداً، ولكن رعاة هذه الحملة يصرّون على تلقي ليرة واحدة لقاء خدماتٍ متفرقة، واعتبار الليرة قيمةً تبادليةً لسلع مختلفة. ويعتقد القائمون على هذه الحملة أن الطلب على الليرة سيزداد بسرعة كبيرة، حيث يُتاح المجال لقانون العرض والطلب أن يعمل بقوة، ليرفع من سعر الليرة مجدّداً، بعد أن سجّلت أكبر هبوط لها في التاريخ، فتجاوز سعر الدولار الواحد مبلغَ 1200 ليرة سورية.. للشكل الخارجي لهذه الحملة طبيعة كوميدية، فالليرة التي أصبحت تعادل لا شيء لم تعد موجودة في الواقع! وخرجت من التداول، حتى إن النظام قد سحب إصدار العام 1991 منها، لأسبابٍ سياسية، فالنسر الموجود على هذا الإصدار يحمل ثلاث نجمات، بما يذكِّر دائماً بعلم المعارضة السورية، والحملة تصرّ على تلقي هذه الليرة مقابل أداء خدمات كثيرة، ما أفسح المجال لرواج مقولة "الجمل بليرة وما في ليرة".. سقطت الحملة في تناقضٍ منطقي، وهو عدم وجود الليرة. وعلى سبيل المثال، المطعم المشارك في هذه الحملة غير مستعد لأن يقدّم لك مائة سندويشة من الشاورما مقابل عملة من فئة المائة ليرة، فالخدمة تتوفر فقط لفئة الليرة الواحدة، ويفضّل أن تكون معدنية. 
تشبه هذه الحملة النظامَ نفسه الذي دأب على المتاجرة بالشعارات العالية المجلجلة، والاستثمار في مشاريع ضخمة بحجم الأمة، من دون أن يبدو ما يوحي بفهمه حقيقة هذه الشعارات والمشاريع، وماذا تتطلب لتحقيقها كشعارات الوحدة والحرية.. وهنا يظهر أن الشارع الموالي كليل اليد، وله باع قصير، فهو لا يعرف إلا التفاعل الظاهري غير المؤثر على جوهر الأزمة، فالعملة هبطت خلال أقل من شهر إلى نصف قيمتها، ما يعني أن كل شيء قد أصبح سعرُه مضاعفاً. وتتجاوز هذه الكارثة بكثير عروض صغار الكسبة ببيع بعض منتجاتهم مقابل ليرة، فاحتياطيات البنك المركزي سالبة القيمة، والتزامات دفع فواتير المحروقات والقمح الكبيرة مرتبطة بالناتج القومي ومداخيل الدولة، وليس بأسعار خدمات بسيطة تقدَّم مجاناً مدة قصيرة في إطار حملة "ليرتنا عزّنا"، فالمداخيل معدومة بعد أن خرج النفط بشكل شبه كامل من حسابات الدولة، وقد وضعت أميركا اليد عليه، والجهاز الضرائبي فاسد ذو هيكل تنظيمي مليء بالثغرات، فضلاً عن المعايير المزدوجة التي يعتمدها رسميا. أوصلت هذه العوامل خزائن الدولة إلى الإفلاس، ويبدو أن إمدادات إيران توقفت أو ضعفت كثيراً، ما جعل جهاز الدولة الاقتصادي يراقب تهاوي العملة يائساً، وليس بين يديه إلا التلويح بعقاب تجار العملة ومكاتب الحوالات، وهي ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها النظام لهذا الإجراء، وليس أمام الجمهور المثخن الذي يراقب هذه المأساة إلا القيام بحملةٍ من هذا النوع الكوميدي، والتي تشبه الوقوف على الأطلال.
لا يتعلق هذا الانهيار بسنوات الحرب التسع فقط، وقد شهدت الفترات السابقة تهاوياً ملفتاً منذ بداية حكم الأسد الأب، والأسباب متقاربة وتتلخص في: أداء اقتصادي متخلف، وانعدام كفاءة جهاز إدارة التدهور.. فالأولويات أمنية، وهذا يتعارض كثيراً مع إمكانية أداء سلوكيات سياسية واجتماعية واقتصادية صحيحة. ويمكن تلمّس ذلك من حكاية اليوم عن هذه الليرة، فالإصدار الأول منها ظهر في العام 1950 وكان مصنوعاً من الذهب أو الفضة، أما الإصدار الذي مُنع تداوله عام 2013، لأنه بثلاث نجمات، فقد صنع من حديد مقاوم للصدأ، والآن يريد جمهور النظام إعادة تصنيعها ولكن من معدن بخس.