قابوس .. حكمة الجوار

قابوس .. حكمة الجوار

26 يناير 2020
+ الخط -
في محيط إقليمي يحكمه صراع المحاور المتنافسة التي حوّلت معظم بلدان المنطقة إلى جبهات إقليمية مفتوحة لنهب ثروات الشعوب وتدميرها، شكلت السياسة الإقليمية العُمانية معطى دبلوماسياً فريداً، سعى، في المجمل، إلى احترام إرادة الشعوب، وعدم التدخل في الأزمات الداخلية، ما مكّنها من احتلال موقع استثنائي في السياسة الإقليمية والدولية، بفضل الاستراتيجية التي اختطتها سلطان عُمان الراحل، قابوس بن سعيد، إذ بلور، على مدى عقود من حكمه، سياسة قائمة على الحياد الإيجابي، جعلت بلاده وسيطا إقليميا وطرفا ثالثا ساهم في حلحلة عدد من أزمات المنطقة، بما في ذلك خفض التوتر في الصراعات المحلية والإقليمية والدولية، وبالتالي شكلت وفاة السلطان قابوس، في يناير/كانون الثاني الحالي، خسارة متعددة الأوجه، لكونه مهندس التجربة الإقليمية العُمانية التي سعت، في كل الظروف الإقليمية الصعبة، إلى تثبيت نوع من الاستقرار العالمي، فضلاً عن أثر غيابه على عدد من أزمات المنطقة المشتعلة، وفي مقدمتها الحرب في اليمن، بما في ذلك مسارات الخيار السياسي التي كانت العاصمة العُمانية، مسقط، بوابتها الرئيسية. 
تَشَكل المنحى التطوّري اللافت في التجربة العُمانية (القابوسية) من انتقالها السياسي من دولة متدخلة خاضت حرباً محدودة مع دولة مجاورة إلى تبنّي سياسة إقليمية، ارتكزت على الحياد الإيجابي، وهو ما ضاعف من أهميتها السياسية والدبلوماسية بالنسبة لليمن المجاور لها أولا 
وللمنطقة ثانياً، إذ مثلت النتائج الإقليمية لثورة ظفار العُمانية، في سبعينيات القرن المنصرم، حداً فاصلاً في سياستها الإقليمية، حيث نتج عن حربها الحدودية المحدودة مع اليمن الجنوبي حينها دعم سلطة اليسار الثورة الظفارية، وما ترتب عليه من مشكلاتٍ داخلية في عُمان، بما في ذلك تصدير مقاتلين يساريين من جنوب اليمن إلى جبهة ظفار. منذاك أدركت عُمان أن تأمين حدودها وتثبيت استقرار السلطنة يتأتى أولاً من دعم الاستقرار السياسي في بلدٍ تتداخل حدودها معه، ويشكل عمق أمنها القومي، لا في تأجيج الصراع الداخلي فيه، بهدف تحقيق مصالح آنية، ومن ثم كانت سياسة الحياد الإيجابي خيارا وقائيا عُمانيا في المقام الأول، جنّبها على الدوام استجلاب المشكلات اليمنية إلى أراضيها، حيث انتهجت عُمان سياسة إقليمية حيادية في جميع جولات الصراع العاصفة التي شهدها اليمن أربعة عقود، بما في ذلك ثورة فبراير في عام 2011، وحتى الحرب الحالية، ما مكّنها من تأدية دور دبلوماسي تمثل في تقريب وجهات النظر بين فرقاء الصراع اليمنيين، بما في ذلك التدخل السياسي لإطلاق سراح الرهائن الأجانب في اليمن، فيما استفادت السلطات اليمنية المتعاقبة، وكذلك اليمنيون، من حياد عُمان، بأنها أمنت على الأقل شر دولةٍ متدخلةٍ أخرى، وهو شرٌّ طالما أتاها من دول تشترك معها في الحدود.
شكلت السياقات السياسية والعسكرية للحرب الحالية في اليمن، بما في ذلك المنعطفات التي دخلتها، نقطةً فارقةً في نضوج التجربة العُمانية الإقليمية، فمن أوجهٍ عديدة كانت اختباراً عملياً لسياسة الحياد التي انتهجتها عُمان، وتمظهر ذلك في إدارة علاقتها مع فرقاء الصراع اليمنيين، فمع اعترافها بالشرعية اليمنية ممثلا رئيسا للسلطة في اليمن، احتفظت مسقط بعلاقة مميزة مع جماعة الحوثي، وذلك لتقديمها تسهيلاتٍ كسرت، إلى حد ما، الحصار الدولي المفروض على الجماعة، فيما انتهجت سياسةً متوازيةً مع وكلاء الحرب الإقليميين المؤثرين في الأزمة اليمنية ومقاوليها، فعلى الرغم مما أحدثه التدخل العسكري في اليمن، بقيادة السعودية، من جعل الجغرافيا اليمنية ساحةً للصراع الإقليمي، بدعم حليفها المحلي السلطة الشرعية، مقابل الدعم الإيراني لحليفه الحوثي، من ضغط عسكري على الجبهات الحدودية اليمنية مع سلطنة عُمان، بما في ذلك تكريس السعودية نفوذها العسكري والقبلي في مدينة المهرة اليمنية، العمق الاستراتيجي لسلطنة عُمان، إضافة إلى اصطباغ الصراع في اليمن بصبغة الصراع السعودي - الإيراني الطائفي، فإن الاستراتيجية العُمانية احتفظت برؤية بعيدة النظر في مقاربتها الحرب في اليمن، إذ لم تنجرّ للحماسة السياسية أو الدينية التي أطلقتها معظم دول المنطقة حيال الحرب في اليمن، وإنما التزمت سياسة الحياد الإيجابي من الصراع في اليمن، مع تأكيدها على الخيار السياسي لحل الأزمة اليمنية، وحكمتها التي بلورتها في تجاهل الاستفزازات السعودية في مدينة المهرة اليمنية، ورفضها الانجرار إلى مستنقع الصراع في اليمن.
يُحسب لسلطنة عُمان مجد تجاهلته الدول المتدخلة، تمثل في تجنيب اليمن أذى مضاعفا يأتي منها، إذ لم تشارك في خراب اليمن، كما فعلت معظم البلدان العربية ودول إقليمية، كما لم تكن متفرّجاً 
لمآلات هذا الخراب واستمرار معاناة اليمنيين، حيث أطلقت، في السنة الأولى من حرب اليمن، مبادرة سياسية قضت بضرورة تسليم جماعة الحوثي أسلحتها للدولة اليمنية، بداية لإرساء تفاهمات سياسية مع السلطة الشرعية. نشطت الدبلوماسية العُمانية خمسة أعوام لإيجاد مخرج ينهي الحرب في اليمن، إذ لا يمكن بأي حال مقاربة مسارات الخيار السياسي التي قطعها فرقاء الصراع في اليمن من دون التطرّق إلى الدور العُماني، ففي جميع المحطات السياسية التي شهدتها الأزمة اليمنية، كانت الدبلوماسية العُمانية البوابة الرئيسية التي مهدت بشكل مباشر لانطلاق المفاوضات السياسية بين الفرقاء اليمنيين، حيث نجحت الدبلوماسية العُمانية في دفع الفرقاء المحليين إلى الانخراط في جولات المفاوضات السياسية من مفاوضات جنيف والكويت إلى مفاوضات السويد. ومن ناحيةٍ أخرى، لعبت الدبلوماسية العُمانية دوراً استثنائياً في تقريب وجهات النظر بين اللاعبين الإقليميين في اليمن، وذلك لدورهم الفاعل في استمرار الحرب وعرقلة المسار السياسي، إذ ظلت عُمان حلقة دبلوماسية نشطة، سعت إلى خفض التوترات الإقليمية بين إيران والسعودية، وكيلي الحرب في اليمن، وبين إيران وأميركا، فضلاً عن تنظيمها لقاءات غير مباشرة بين قيادات سعودية وقيادات حوثية، بهدف دفع عملية السلام في اليمن.
بين تبعات سياسة الدول الإقليمية والدولية المتدخلة والسياسة الحيادية العُمانية، نتائج حاسمة لا تدركها إلا الشعوب المغلوبة على أمرها، والتي اكتوت بنار المتدخلين الأجانب ووكلائهم المحليين، هو بونٌ شاسع، كالمفاضلة بين نتائج الشر والقهر والغلبة ونهب خيرات الشعوب وتدميرها وتمزيق أرضها، ونتائج سياسة كفّ الأذى ودعم الخيار السلمي لاستقرار العالم. من هنا، كان السلطان قابوس استثناءً في سياسة إقليمية، كانت خلاصتها حكمة وعت دروس التاريخ وعاقبة الاستقواء على الشعوب.