إيران وأميركا: جَعجَعةٌ ولا طحن

إيران وأميركا: جَعجَعةٌ ولا طحن

26 يناير 2020
+ الخط -
لا شيء يمثّل التناطح الأميركي الإيراني، بعد مقتل جنرال مشروع تصدير الثورة الإيرانية، قاسم سليماني، في الثالث من يناير/كانون الثاني الحالي، سوى المثل العربي "أسمع جعجعة ولا أرى طحنًا"، ففي خطوة تصعيدية عالية الدقّة ومحدّدة، اغتالت وزارة الدفاع الأميركية قائد المهامّ التوسعية الإيرانية الجنرال قاسم سليماني، رفقة القيادي في "الحشد الشعبي" العراقي أبو مهدي المهندس وعشرة آخرين. حينها أزبدت إيران وأرعدت، وتوعّدت الولايات المتحدة بانتقام شديد، ردًا على فعلها العدواني. 
وحين كانت العمائم العليا الإيرانيّة تنتحب على بطلها الأثير، وكان الشعب الإيراني يبكي بطله الشعبي بالملايين، جاء الرد الإيراني خائبًا وكاذبًا في الوقت نفسه؛ إذ أطلقت إيران عدّة صواريخ على قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق بعد خمسة أيام من مقتل سليماني، وسارع تلفزيونها الرسمي إلى الإعلان أنّ الصواريخ الإيرانية قتلت ثمانين جنديًا أميركيًا، في خطوة كاذبة واضحة جدًا، وسارعت منصّات إلى نقل الخبر عن التلفزيون الإيراني الرسمي. ولكن ما لبث الرئيس الأميركي، ترامب، أن خرج إلى الإعلام، ليعلن، في هدوء، أنّ كلّ شيءٍ على ما يُرام، قائلاً: "على الشعب الأميركي أن يحمد الله، لم يُصِب أيّ أميركي أيّ أذى في الهجوم الصاروخي الذي نفذه النظام الإيراني أمس"، ولم يُصَب أيّ أميركي بأذى.
وربما ظنّ القادة الإيرانيون أنّ في هذا "الكذب الصراح" تهدئة لجماهير الإيرانيين ولأحزانهم 
على مقتل بطلهم الشعبي. لا مانع لدى إيران، إذن، أن تثأر ثأرًا كاذبًا لجرح كبريائها الكبير. وحين هدّد ترامب أنّ الولايات المتحدة حدّدت 52 موقعًا إيرانيًّا لاستهدافهم بسلاح الجوّ الأميركي، هدّدت إيران في المقابل أنّها حدّدت ما لا يقلّ عن مائة وأربعة أهداف أميركية لاستهدافها بالصواريخ الإيرانية. يبدو بالفعل أنّ الرطانة اللفظية من الجانبين هي سيدة الموقف، بل ولا يتضح من هو الجمهور المستهدف بهذه الرطانة؟ هل هم جمهور "فوكس نيوز" في الولايات المتحدة وجمهور مشيعي سليماني في إيران؟ قد يكون هذا الجمهور هو الموجّه إليه هذا الخطاب بالفعل.
ولكنّ خطوة مقتل سليماني وأبو مهدي المهندس لم تكن بداية احتمال حرب، بل كانت نهاية فترة توتر وتصعيد خلال العام المنصرم. إذ ادعت المتحدّثة باسم الخارجية الأميركية، مورغان أورتاغوس، أنّ المليشيات العراقية الموالية لإيران نفذت ستة آلاف ضربة لقواعد عسكرية أميركية في العراق، ولكنها لم تحدّد بدقة المدة والخسائر الأميركية الناتجة عن هذه الضربات، إن وجدت. كما نالت مواقع الحشد الشعبي في العراق في صيف 2019 عدّة ضربات مجهولة المصدر اتُهمت إسرائيل بتنفيذ إحداها.
ولم يصمت الحشد الشعبي عن هذه الضربات، فأطلق 31 صاروخاً على قاعدة أميركية بالقرب من كركوك في 27 ديسمبر/ كانون الأول المنصرم، فيصاب أربعة جنود، ويُقتل نورس وليد 
حامد، وهو متعاقد مدني أميركي. كان ردّ الولايات المتحدة موجعًا على هذه الصواريخ، حيث قصفت خمسة مواقع لكتائب حزب الله في العراق وسورية، أودت بحياة ما بين 25 و30 من المقاتلين في 29 ديسمبر، فأثار هذا غضبًا شديدًا لدى الجمهور المؤيد للحشد، ما دفعه إلى التجمهر أمام السفارة الأميركية ومحاصرتها. لم يرتح ترامب لهذه الفوضى، وإنْ لم تشكل خطرًا حقيقيًا؛ وأراد أن يضع حدًا نهائيًا لسلسلة الهجمات والهجمات المضادّة هذه، ويردع إيران ردعًا نهائيًا؛ فكان التصعيد الأعنف باغتيال سليماني ورفاقه في مطار بغداد. وبذلك كانت خطوة الاغتيال ذروة التصعيد، وليست بداية شرارة حرب. فبحسب صحيفة نيويورك تايمز، فإن وسطاء سويسريين نقلوا إلى إيران رسالة تحذير عن مسؤولين أميركيين أنّ أيّ ردّ فعل انتقامي يسبب خسائر للولايات المتحدة، سيجعل الرئيس ترامب مضطرًا لاتخاذ فعل عسكري تصعيدي، وهو ما لا يرغب فيه ابتداءً. وعى الإيرانيون الرسالة تمامًا، فأطلقوا عدّة صواريخ على قاعدة عين الأسد لم تُصِب أي أميركي بأذى، كما قال ترامب. تعلم إيران حدودها بدقة، وتعلم أنّ العصفور الذي في يديها من نفوذ متمكّن على الأرض في لبنان والعراق وسورية واليمن، أفضل من عشرة على الشجرة من نفوذ محتمل، إثر مواجهة الولايات المتحدة في العراق.
لا ترغب أيٌ من إيران أو الولايات المتحدة في الحرب، على الرغم من الجعجعة العالية التي سمعناها في نهاية 2019 وبداية 2020. بل يمكن القول إنّ أيًا من الدول الكبرى لا ترغب في الحرب كذلك. إذ بدا الرئيس ترامب في عرض انفرادي على ساحة خطاب الحرب المزعوم، فلم تؤيده في الحقيقة أي دولة أوروبية كبرى، بما فيها بريطانيا. بل شجّع رئيس فرنسا، إيمانويل ماكرون، على التهدئة، ووقف من حادثة مقتل سليماني موقفًا محايدًا، فلم يؤيد ولم يشجب. بل لم تشجع الدول الإقليمية على المضيّ في خطوات تصعيد. إذ كتبت "نيويورك تايمز" أن دبلوماسيين سعوديين أشادوا بمقتل سليماني، وفي الوقت نفسه، قلقوا بإزاء المزيد؛ إذ وجّهوا السؤال إلى الرئيس ترامب: ما الخطة بعد ذلك؟ إن لم توجد، فعلينا جميعًا التهدئة. وهذا ما حدث بالفعل، إذ قرّر الرئيس ترامب أنّ الولايات المتحدة لن تردّ على قصف إيران قاعدة عين الأسد، بل ودعاهم إلى طاولة المفاوضات، ولكن من دون شروط.
لا يتحمّل الشرق الأوسط مزيدا من الحروب، ويبدو أنّ فعلاً حكيمًا بتجنّب حرب يمكن تجنّبها، قد تواطأت عليه عدّة إرادات، ليس بالضرورة أن تكون خيّرة، ولكنّها واقعيّة ونفعية بالتأكيد.
4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
4FD1CF2E-2644-4CC1-8828-87204B0E3728
خديجة جعفر

كاتبة وباحثة مصرية، ماجستير في الفلسفة من الجامعة الأميركية في القاهرة.

خديجة جعفر