الحنين لما قبل الربيع العربي

الحنين لما قبل الربيع العربي

24 يناير 2020
+ الخط -
مع إخفاق موجة الانتفاضات العربية في العام 2011، بتحقيق الحد الأدنى من مطالبها، باستثناء الحالة التونسية على تعثراتها، بل وتحول بعض تلك الدول إلى ساحة حربٍ ضروس، وأخرى تزايد فيها القمع الأمني لسلطاتها من دون تراجع لمعدلات الفساد المرتفعة أصلاً، تصاعد الشعور بالإحباط، خصوصا مع انسداد الأفق الحاصل، سواء بسبب الحرب والتمزّق الاجتماعي أو بسبب القمع الأمني، وفي الحالتين، كل الدول التي شهدت ثورات في 2011 تعرّضت نخبتها السياسية والثقافية، لتجريف واسع بسبب القتال، أو التنكيل، ما دفع كثيرين إلى المنفى. 
كشفت انتفاضات 2011 عدة أمور، أبرزها قدرة الجماهير على التضحية، وتوقها الشديد إلى التغيير، ما يدحض كل أوصاف التخاذل والجبن التي كانت تصدر عن مثقفين كثيرين، فهذه الانتفاضات كشفت بؤس النخبة العربية التي باغتها تغييرٌ لم يخطر لها على بال، ولم تحاول التفكير في أية سيناريوهات مستقبلية، من شدّة استرخائها فترات طويلة، في وضعيةٍ لم تتغير ولم تفعل حياله سوى النقد والشكوى، من دون فعل سياسي يمتلك القدرة على التنسيق، أو الخيال لتصور سيناريوهات بديلة للسلطة.
غالبية النخبة المتقدمة في العمر لم تكن على استعداد لتحمل كلفة التغيير الفعلي. وبطبيعة الحال، 
مالت إلى إصلاح أنظمةٍ صار من غير الممكن إصلاحها. أما الشباب فقد دفع بعضهم أثماناً باهظة من أعمارهم وحياتهم، وآخرون ركبوا الموجة بانتهازيةٍ يحسدهم عليها أرباب الفساد في الأنظمة القديمة.
بعد فرز من ذهبوا ضحايا التنكيل، ومن قرّر التخلي، رغبةً أو رهبةً عن مواقفه، وركوب الموجة المضادّة، تبقّى كثيرون أغرقهم الشعور باليأس والإحباط، وسيطر على بعضهم الشعور بالذنب تجاه أصدقاء وزملاء رآهم يموتون أو يسجنون، دفعوا حياتهم أو أجمل سنوات عمرهم وهم كانوا يقفون معاً في الصف نفسه، لكن أقدارا أو تقديرات شخصية أدت إلى اقتناصهم.
هذا الشعور شديد الوطأة على صاحبه، فهو لا يشعر فقط بقلة الحيلة، بل أيضا بذنب الناجي تجاه من ذهبوا ضحايا لهذا كله، هذا غيرالإحباط واليأس تجاه وضعٍ عام شديد الصعوبة والقسوة، وهذه مشاعر قاسيةٌ صعب اختبارها أو تجاوزها بسهولة، خصوصا لشبابٍ خبرات كثيرين منهم بالعمل السياسي محدودة وصغيرة، ولم تمر بتجارب متعدّدة، وانتهت بتعثر العمل السياسي بشكل كبير، بعد ارتفاع سريع لسقف التطلعات والأحلام، ما يزيد الشعور بانعدام الحيلة.
برزت، في 2011 ظاهرة تسيس شباب لم يكن مسيسا، وانخرط لأول مرة في المجال العام، كل هذا في فضاء سياسي شديد السيولة والفوضى، يكاد يخلو من التنظيمات السياسية والعمل السياسي الجماعي، بل يتم تنظيم التظاهر والدعوة إليه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وهو محيط شديد التذرر والفردية. وكان شبابٌ آخرون من المنخرطين بالفعل في المجال العام. ولكن من باب منظمات المجتمع المدني، وهي من المساحات التي تركتها بعض الحكومات العربية المتسلطة، ولم تحاصرها، وتنكل بها، مثل الأحزاب والنقابات الأكثر تسييساً في العمل العام على عكس منظمات المجتمع المدني التي قد ينحصر عملها في الورش والدورات التدريبية، غير أن طبيعة منظورها للمجال العام أنه يدخل في إطار العمل الخيري، أو الحقوقي، أو التوعوي، وهو يختلف كلياً عن مجال العمل السياسي الذي ينظم ويتحرّك نحو تغييرات حقيقية بالسلطة.
المساجد والجمعيات والمعاهد الدينية مجالات أخرى، استخدمتها جماعات الإسلام السياسي 
لاستقطاب الشباب، وكانت إحدى مساحات المجال العام المسموح بها من حكومات بعض الدول العربية. بالتأكيد تبنّي السياسة من خلال الدين لا يخلق وعيا سياسيا ولا يساعد على تأسيس قوة تنظيمية قادرة على التنسيق والانفتاح مع الآخرين، بسبب عدم قدرة تيارات الإسلام السياسي على طرح بدائل سياسية، سوى شعارات دينية عامة وعاطفية، على الرغم من براعتها في بناء تنظيماتٍ، بعضها حديدية، نجحت في إشاعة مشاعر انتماء وولاء قوية لدى أفرادها، منعتهم من الاندماج في مجموعات سياسية واجتماعية أخرى.
بهذه الخلفيات اللاسياسية في معظمها، سواء لمن كانوا يعملون ضمن المجال العام أو لم يكونوا معنيين بالشأن العام، ومع الغياب الكلي لكل أشكال الفعل السياسي المنظم أو الخيال السياسي القادر على طرح تصوراتٍ بديلة، كان من الطبيعي أن تخفق هذه الانتفاضات، عندما تنتقل من مرحلة فعل التثوير والتهييج الجماهيري، وهو الجزء السهل من شدّة احتقان الجماهير، لمرحلة العمل السياسي.
كانت هذه الخلفيات سبباً في بروز تيار من الشباب الذي شارك بحماسة في 2011، وبدأ يعلن ندمه عن فعله، فالمسألة لا تتعلق بعدم صدقه وإخلاصه في أثناء المشاركة، بل بضعف خلفيته السياسية، ما جعله عاجزاً عن تفسير ما جرى وتحمّل تبعاته، فالسياسة لم تكن يوماً بالمعترك السهل، حتى في الدول المستقرّة، ناهيك عن دول مأزومة في مرحلة تغيير.
انتقل بعضهم من نقيض إلى نقيض، وصار يمجد للرئيس الذي ثار عليه في تجسيدٍ متكاملٍ لعقدة استوكهولم. وضمن شعورهم الطاغي بالذنب والإحباط، لم يستطع خيالهم السياسي الذي كان بسيطا في الأصل يتصوّر الإشكالية في مستوى أعمق من أن ما جرى لم يكن سوى عمل غير مدروس، وهبة غير مخطط لعواقبها، تسبّبت بكوارث سياسية على البلد.
من يتوقع أن الانتفاضات والثورات يمكن التحكّم بمساراتها كلياً لكي تفرز نتائجها المخطّط لها، وكأنها عملية حسابية بسيطة أو مشروع تجاري، من الطبيعي أن يشعر بالإحباط والفشل سريعاً. افترض آخرون أكثر رومانسية أن التضحية والإخلاص أسباب كافية للنجاح، بمنطق: احشد وضحّ فتحصل على ما تريد، وهذا منطلقٌ لا علاقة له بالسياسة التي تعتمد، بشكل كبير، على مفاهيم القوة بمختلف أشكالها.
هذه مساراتٌ متعرّجة ومعقدة، ولا يمكن التعبير عن الندم في المشاركة فيها لأسباب كثيرة، أهمها أن أسباب الثورة كلها كانت حاضرة، فالجماهيىر لم تخرج من منازلها بطرا على النعمة، بغض 
النظر عمن يركب هذه الثورات ونتائجها، فكل الحشود الجماهيرية يستحق النظر لها وفهم دوافعها.
من شاركوا في انتفاضات 2011 وندموا على مشاركتهم، ومجّدوا عهوداً سابقة، هم ضحايا غياب السياسة عن المجال العام وإفلاس النخب السياسية والثقافية المعروفة، بسبب استرخائها الطويل في لعب دور معارضة الكنبة. لا يتعلق الأمر بصدقهم وإخلاصهم، مثل شباب آخر، صار ضمن السلطة أو آلة الحرب يبحث عن منافع شخصية، ولا يشعر بأدنى ذنبٍ أو حرج من الانخراط في سلطةٍ لا تقل فساداً عن التي ثار عليها.
موجة الحنين للماضي أو الانكفاء عن العمل العام يعبّران عن حالة يأس، واليأس أكبر صديق للديكتاتوريات، فهو يحافظ على وجودها، حتى لو تحدثنا عن أطراف ضعيفة وسلطة معتلة وصراعات داخلية لا يعني سقوطها، بل قد تستمر في حال غياب البدائل، وتوقف الفعل السياسي المعارض، بل إن التآكل الداخلي للسلطة من دون بديل قد يدفع المجتمع إلى التمسك بها، أو لمزيد من الفوضى والعنف، إذا لم يكن غارقاً فيهما بالفعل.
في حالة العجز عن العمل السياسي، ليس هناك أقل من الاحتفاظ بالفكرة، وهي ضرورة التغيير وإنه ما قد سقط لم يكن ليسقط لولا جاهزيتها لذلك. مراجعة ما جرى، من أخطائه ومساراته وبدائل المستقبل المحتملة، قد تكون خطوة أولى في الحفاظ على مسار التغيير الذي صار أكثر ضرورة وإلحاحاً لإنقاذ هذه الدول من حروبها أو سلطاتها القمعية المفلسة.