فراندا المقدّس نخلة

فراندا المقدّس نخلة

23 يناير 2020

(سبهان آدم)

+ الخط -
كان المقدّس نخلة رجلا في الستين أو أكثر، وكان طويلا ونحيلا ومطربشا بذلك الطربوش الأحمر فوق جلبابٍ من الكشمير دائما وعباءة سوداء، وكان لا يعرف له أي عمل، وبيته كان له "فراندا" يجلس فيها أولاده الكبار في أدب شديد، بعيدا كل البعد، عن سفالة الشارع وهمجيته وكلامه المباح في الفاضية والعمرانة. ويقال إن المقدّس نخلة كانت له علاقة ما بالسحر، بعدما انقطع عن تجارة الذهب التي زاولها في محله سنوات ثم أغلق المحل، واكتفى فقط بالجلوس في المحل في العصاري، كي يشرب فقط القهوة مع "السيّاغ"، ويسأل عن أحوال السوق والأسعار، وكل آن تتقدّم أسرة ما، لشراء "شبكة" أو غويشة أو خاتمين على سبيل الخبرة القديمة، ثم يأخذ حسنته من دكان الصائغ على مهل، علاوة على معرفته بقياس الأرض، وكان يمتلك شريطا لقياس الأرض، ويأخذ أيضا حسنته المتواضعة من البائع والمشتري في هدوء شديد. أما معرفته بالطب، وكان ذلك سر أسراره، فذلك ما جعل سيرته تتردّد على الألسنة أحيانا، سواء بالمدح أو الذم، وكانت له في ذلك حكايات لم تجلب له أي شيء عكّر عليه أو على أسرته الهادئة صفو الحياة أبدا. 
يقال إن لديه عدسة قديمة يرى بها "قرار العين" المهدّدة بالعمى، وكثيرا ما استعملها في السر مع بعض الرجال والنساء الذين كان يُدخل تبن الأجران في عيونهم في أوقات دريس القمح وتذريته، فكان يزاول عمله بالقطرة والمراهم والعدسة، ويعاود المريض من أصحاب الثقات في بيته ليلا من دون إعلان ذلك، حفاظا على سرّية عمله.
ومن هذا الباب، دخلت على سيرة الرجل أشياء من قبيل القيل والقال فيما يتعلق بالحمل والأعراض والإجهاض، ومعرفته الفاعل صاحب الجرم أحيانا، وغالبا ما كان هو كاتم هذه الأسرار، إلا ذلك السر الذي تسرّب من طوايا حكمته وطيّاتها بعدما كبرت الفضيحة في البطن إلى آذان الناس. وبعد ذلك، حافظ المقدّس نخلة على اتزانه وحكمته وأدبه حتى مات مستورا كما بدأ، وظلّت سيرة أولاده في تكتم وأدب وعزلة واكتفاء أيضا، عزلة لا يضاهيها عزلة إلا عزلة الرهبان في الأديرة والقلّايات، واهتم الأولاد بعدما كبروا وشابوا اهتماما مهيبا بأسرهم في البيت نفسه، بعدما صاروا مهندسين، وتنقطع صلتهم بالحياة تماما بعد عودتهم من العمل، وظلت "الفراندا" كما هي، تحوطها شجرتا ياسمين من كل جانب.
الكرسيان ثابتان في مكانيهما في "الفراندا" وأمامهما الترابيزة وفنجان القهوة، كما كان، أمام المقدّس نخلة، حتى بعدما وصل إلى الثمانين، وكفّ عن الذهاب إلى دكّانه القديم في الصاغة بعدما تركه لصاحب العقار.
ظل كل شيء في حياة هذا الرجل ثابتا من غير تغيير أبدا، وكأن البيت وُجد هكذا، وجلبابه الكشمير، وعصاه، ووقاره، وهدوء أولاده في البيت، وكأنهم كانوا دائما في صلاة، والياسمينتان، والعيال وهي تجعر في الشارع بألفاظهم الجارحة، والمقدّس وهو في الصباح يرى في جلسته في هدوء ومن أمامه القهوة على الترابيزة، والعصافير وهي تتعارك في حبور في الياسمينتين. والياسمين وهو يتساقط في هدوء على التراب، ثم يدلق واحد من الأبناء الماء تحت جذع واحدة، ثم يغلق شباك "الفراندا" ويدخل في أدب، لو كان الصياح في الشارع فوق طاقة سماع الأسرة. ظل الأمر كذلك سنوات، حتى تغيّرت البّلاد وسافر الجميع إلى بلاد الله، وهدمت أغلب البيوت، وصار الأسمنت أليفا على كل عين.
فجأة طفحت المجاري في الشارع، وحاصرت بيت المقدس نخلة، دون غيره من البيوت، ثم خنقت المجاري الياسمينتين، أو لم يعد أحد يراهما من كثرة الإهمال والتراب، حتى تيبّست إحداهما ولحقتها الأخرى، وأغلق الباب القديم حتى منتصفه بالتراب والحجارة بعدما هبط البيت، وأصبحت "الفراندا" منطًّا للكلاب مع مواء القطط الضالة ليلا، بعدما ذهب كل الأهل إلى أستراليا تباعا، وانقطعت تماما سيرتهم.

دلالات