الصورة التي تختزل الأزمة الليبية

الصورة التي تختزل الأزمة الليبية

22 يناير 2020

الرؤساء ورؤساء وفود مؤتمر برلين بشأن ليبيا (19/1/2020/Getty)

+ الخط -
الصورة التذكارية للمشاركين في مؤتمر برلين بشأن ليبيا تختصر، إلى حد كبير، كل كلام مسترسل عن الأزمة الليبية. ويكفي تأمّلها جيدا لقراءة العناوين الكبيرة للأزمة ومستقبلها. ويمكن بداية القراءة، أولا، من خلال مستوى الحضور الكبير الذي ضم سبعة رؤساء ورئيس وزراء، ووزراء خارجية ثماني دول، بالإضافة إلى الأمين العام للأمم المتحدة ورئيسة المفوضية الأوروبية ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، ما يعكس الأهمية الكبرى التي توليها أوروبا والعالم للموضوع الليبي، إذ ضمّت قائمة الحضور قادة ألمانيا وروسيا وتركيا وفرنسا وإيطاليا ومصر والجزائر، بالإضافة إلى وزير خارجية أميركا. وثانيا، من خلال تَموقع الحاضرين داخل إطار الصورة والغائبين عنها أيضا، فقد غاب عنها أبرز المعنيين بالقضية الليبية، أي أهلها الممثلون في مؤتمر برلين برئيس الحكومة الشرعي، فائز السراج، ورجل شرق ليبيا القوي، الجنرال خليفة حفتر، كما غاب عنها ممثلون لأقرب دولتين جغرافياً معنيتين مباشرة بما يجري في ليبيا، أي تونس الجارة الأقرب جغرافيا لها والأكثر تأثّرا بما يجري فيها، والمغرب الدولة التي احتضنت أول لقاءات لأول عملية سياسية بين الأطراف الليبية المتنازعة، انتهت إلى "اتفاق الصخيرات" تحت رعاية الأمم المتحدة. أما ممثلو الدول التي تربطها حدود مباشرة مع ليبيا، المشاركة في المؤتمر، أي مصر والجزائر، فإن وقوف رئيسيهما على طرف كادر الصورة التذكارية يُغني عن التعليق على الأدوار الهامشية الموكول لهما تمثيلها داخل المؤتمر. ووزير الخارجية العربي الوحيد الحاضر في الصورة، وهو وزير خارجية الإمارات فبالكاد يظهر في أقصى الصف الخلفي للواقفين أمام عدسة المصوّر. 
قراءة هذه الصورة التي حرص بروتوكول الدولة المنظمة، وممثلو الدول الكبرى المشاركون في المؤتمر، على إخراجها بالطريقة التي وصلت إلينا، والتأمل في تفاصيلها والبحث عن الغائبين 
داخل إطارها، يكفي ليكون عنوانا كبيرا للأزمة الليبية، وللوضعين، المغاربي والعربي عموما. ففي وقت حضر فيه ممثلا الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، غاب أي تمثيل، ولو شكليا، لجامعة الدول العربية، مع التذكير أن ليبيا ما زالت عضوا في هذه الجامعة التي لا يُعرف هل ما زالت هي نفسها موجودة وقائمة، أم فقط هياكلها وموظفوها هم الموجودون عندما تستدعي خدماتهم الدول التي اختطفتها منذ سنين! والغائب الكبير الثاني عن الصورة هو ممثل اتحاد المغرب العربي الذي تعدّ ليبيا من بين أعضائه ومؤسسيه، قبل أن يتحول إلى مجرد بناية منسية في أحد أزقة أحياء الرباط يؤوي أكثر موظفين مرتاحين في العالم يتقاضون رواتبهم منذ 33 سنة، بدون إنجاز أي عملٍ يُذكر!
يبقى السؤال عن الهدف من مؤتمر برلين الذي عقد لإيجاد حل للأزمة الليبية وإحلال السلام في ليبيا، وهو ما نجد له الجواب في الصورة التذكارية نفسها التي تختزل، في تفاصيلها، فكرة انعقاده والهدف من وراء مخرجاته. فالمهم، كما تظهر لنا الصورة ذلك بشكل واضح، ليس إيجاد توافق بين مواقف طرفي النزاع الليبيين اللذيْن غابا عن أشغال المؤتمر، وغابا عن لحظة التقاط صورته التذكارية، وإنما هو إيجاد تفاهم بين مواقف الدول الإقليمية الداعمة طرفي النزاع. وكأنما جاء مؤتمر برلين ليزكّي، رسميا، تحول ليبيا إلى مسرح لصراع جيوسياسي كبير، تتداخل فيه مصالح دول كبرى، في مقدمتها روسيا وأوروبا وتركيا، فيما تقوم دول عربية بدور "المتعهّدين المحليين" لتنفيذ مصالح واستراتيجيات دول كبرى.
أما دعوة مؤتمر برلين إلى وقف التدخلات الخارجية في الأزمة الليبية، ووقف مد الليبيين 
بالسلاح، فتلك دعوة فيها نفاقٌ ومغالطةٌ كثيران، لأن أكبر المتدخلين في الشأن الليبي، وأكبر المورّدين للسلاح والمليشيات والمرتزقة إلى ليبيا، هم أنفسهم كبار الحاضرين في المؤتمر! فكيف يستقيم أن يدعوا أنفسهم إلى الامتناع عن شيء هم أنفسهم يأتونه؟! لو كان المشاركون في المؤتمر جادّين في مسعاهم إلى تحقيق السلام للشعب الليبي، وجلب الاستقرار إلى ليبيا، لانتهى المؤتمر، بدلا من الدعوة إلى وقف التدخلات الأجنبية، إلى إصدار قرار وتعهّد من الحاضرين بكفّ تدخلاتهم في الشأن الليبي، وترك الليبيين لأنفسهم، ولمن له القدرة على مساعدتهم للم شملهم بدل تفريقهم، وإذكاء نار الفتنة بينهم.
تقول القراءة الأخيرة في الصورة التذكارية للمشاركين في مؤتمر برلين، بوضوح، إن حل الأزمة الليبية، على الأقل في المستقبل المنظور، ليس بيد الليبيين، ولا بيد جيرانهم الأقربين، أولئك الغائبين أصلا عن الصورة، وأولئك المهمّشين داخل إطارها. ولن يكون أيضا حلا عربيا في ظل التفرقة العربية، وحالة الغياب والتيه والضعف التي يعيشها العالم العربي ومؤسساته المتهالكة. منذ سنوات، وليبيا تسير من حربٍ إلى أخرى، من حرب الأشقاء إلى التدخلات الأجنبية وحروب الوكالة، وستنتهي بالتدخل الدولي الذي غالبا ما ينتهي بالحرب الأهلية والخراب والدمار، كما حصل في أفغانستان، ويحصل في العراق وسورية واليمن.
مؤتمر برلين، كما تختزل ذلك صورة المشاركين فيه التذكارية، لم يعقد من أجل عيون الليبيين، أو من أجل توحيد صفوفهم، وإنما من أجل توحيد موقف الأوروبيين، والتوفيق بينهم وبين الروس من جهة وبينهم وبين الأتراك من جهة، والغائب الأكبر عن معادلته هم العرب، أما الضحايا فهم الشعب الليبي الذي يزجّ أبناءه في حروب طاحنة هم مجرّد حطبها، أما خِراجها وغنائمها فتذهب إلى من يخوضونها بالوكالة في عواصمهم البعيدة عن مآسيها وأحزانها ولهيبها.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).