استفظاع تونسي في غير مكانه

استفظاع تونسي في غير مكانه

22 يناير 2020
+ الخط -
تتمدّد موضة المبالغة في استفظاع تأخر تشكيل الحكومة التونسية، وعجز حبيب الجملي عن نيل ثقة مجلس النواب، في انتظار معرفة مصير تكليف إلياس الفخفاخ. ويتوزّع عرّابو استفظاع الإرباك الحاصل في عمل المؤسسات التونسية على فئات ثلاث: أولى اقتنعت برواية خبثاء ماليين وإعلاميين دأبوا على زرع أكذوبة أن الخلاص سيأتي على أجنحة قروض صندوق النقد الدولي إلى عموم التونسيين فقط عندما تولد الحكومة. وثانية وجدت التأخير ذاك فرصة ذهبية لإخبار التونسيين، وحالمين من خارج تونس، بالسير على خطاهم، في سبيل إنجاز تغيير ديمقراطي حقيقي، أن مصيبة الفراغ الحكومي (بينما لا هو مصيبة ولا فراغ حقاً) دليل على كارثة نجاح الثورة التونسية. ويسترسل هؤلاء بوقاحة: تذكّروا كيف كنتم تصحون على أنباء ولادة حكومات جديدة في عهد زين العابدين بن علي، في بيانٍ خفيف يمر مرور الكرام على وكالة الأنباء الحكومية التي لا يقرأها أحد أصلاً. وأخيراً فئة ثالثة تستسهل، من دون سوء نوايا بالضرورة، تكرار الكليشيهات التي لا تقيم وزناً للحقيقة، ومغزاها أن الأزمات السياسية والتحالفات وتفكّكها والائتلافات الحكومية وانقلابها، ومن ثم سقوط الوزارات وتأخر قيام خليفتها وإجراء انتخابات مبكرة متتالية تحاول حسم قصة غالبية تحكُم وأقلية تعارض، كلها عناصر عادية في النظام البرلماني الديمقراطي، وفي الديمقراطية عموماً، حتى ولو كان قالبها نظاما رئاسيا. ينسى بعض من هؤلاء ويتناسى آخرون ما يقرأون يومياً عن أخبار ديمقراطيات عريقة للغاية، لا تأخذ أزمات سقوط حكوماتها البلد إلى الخراب الاقتصادي ــ الأمني ــ المعيشي، لأن المؤسسات هي التي تحكم، لا تسلطيّة الحاكم ونزوات العائلة والطائفة. 
يمكن سرد أمثلة عديدة من ألمانيا وبلجيكا وإسبانيا إلى إيطاليا فنماذج اسكندينافية، جديدها كان انسحاب جزء معتبر من الائتلاف الحكومي في النرويج قبل يومين، لمحاولة إقناع تونسيين وغير تونسيين أن ما يحصل في البلد الناجي من الثورات العربية المضادة، والذي لا يزال يتلمس خطواتٍ أولى في رحلة إرساء انتقال ديمقراطي صعب، ليس استثناءً ولا كارثة، بل امتداد لقواعد تلك التي يسمونها "اللعبة الديمقراطية". لعبة فيها استقطابات واختلافات، تصل إلى حد الانقسام العمودي، وتوافقات عجيبة مرحلية بين أضداد أيديولوجيين، وفيها كذب أحياناً ومصالح ضيقة، وكلها مجدّداً تبقى طبيعية، طالما أنها ظلت سلمية، ومحلية الأسباب.
ولمن يستفظع اتفاق طيف واسع ومتناقض من أحزاب وتيارات تونسية ضد حركة النهضة على خلفية مرجعيتها الإسلامية، وإصرارهم على منعها من تشكيل حكومة، مع أنها صاحبة المرتبة الأولى في عدد مقاعدها البرلمان، أن يُبقي في باله أنه كان يمكن أن تُروى الحكاية مقلوبة، أي أنه كان يمكن حلول "النهضة"، الإسلامية تلك في موقع الحائل دون تمكّن يسار راديكالي أو عائلة تسمّي نفسها علمانية تحديثية، من الحكم، بهدف الذهاب إلى انتخاباتٍ مبكّرة لعلها تعيد إنتاج خريطة مختلفة للأغلبية وللأقلية في البرلمان.
ما يحصل في تونس عادي جداً، لكنه جديد علينا، نحن الشعوب العربية التي لم تختبر الممارسة الديمقراطية مع ما تحمله من أزماتٍ وانقساماتٍ مصلحية وعقائدية، فكيف إن كانت الممارسة الديمقراطية التونسية لا تزال جسداً غير مكتمل، بمؤسساتٍ ناقصة، وبمحكمةٍ دستوريةٍ لم تلدها كل سنوات ما بعد سقوط الديكتاتورية؟ ما يحصل في تونس عادي جداً، أما غير العادي فهو ما يجري في معظم البلدان العربية الأخرى (في انتظار المآلات الجزائرية مثلاً).
الديمقراطية، كناظم سلمي للتباينات، تكره الإجماع والتماثل، وتهوى الاختلافات والمشاكسة، وهذا ربما يكون أجمل ما فيها.
أرنست خوري
أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".
أرنست خوري