فوضى البرلمان في تونس

فوضى البرلمان في تونس

21 يناير 2020

كتلة الحزب الدستوري تمنع جلسة للبرلمان التونسي (8/11/2019/فرانس برس)

+ الخط -
ربما كان البرلمان الحالي في تونس أكثر المجالس النيابية عجزا وفشلا منذ نجاح الثورة التونسية سنة 2011. وبما أن التجربة التعدّدية وتنوع التلوينات الحزبية ذات التمثيلية في مجلس نواب الشعب، كما يسمى رسميا، قصيرة وما زالت تتلمس خطواتها الأولى، إلا أنها قطعا بحاجة إلى مراجعة أكيدة حان أوانها، إذا كانت الطبقة السياسية التونسية تسعى فعلا إلى مصلحة البلاد وتأسيس نظام سياسي مستقر وقادر على الاستمرار والبناء. فمنذ الجلسة الافتتاحية للمجلس، بدأ التنازع بين ممثلي الأحزاب والقوى السياسية، قبل أن يأخذ الصراع السياسي المعتاد طريقه نحو الفوضى وحالة من الانحدار نحو إفشال عمل البرلمان، ودفعه نحو وضع العجز التام عن أداء مهامه التي وُجد من أجل القيام بها، فقد بدأ التنازع عبر حالة من التلاسن بين إحدى النائبات المنتميات لكتلة حركة النهضة ورئيسة كتلة الحزب الدستوري انتهت إلى اعتصام الأخيرة في المجلس، لتطالب باعتذار رسمي، وهو ما عطّل عمل البرلمان أياما. 
كان واضحا أن صعود نواب من بقايا النظام السابق، ممن كانوا منتمين إلى حزب التجمع الدستوري الديمقراطي التونسي (حزب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي)، والذي تم حله بقرار قضائي بعد الثورة، قد أحدث حالة من التوتر في البرلمان، باعتبار أن حالة الجدل البرلماني المعتاد خرجت عن نطاق الصراع حول تمرير قوانين أو جدل بشأن مسائل سياسية 
خلافية، ليصبح نوعا من الصراع المستعاد بين أنصار نظام الاستبداد السابق والصاعدين الجدد بعد نجاح الثورة، فرئيسة كتلة الحزب الدستوري، عبير موسى، لا تخفي رفضها النظام السياسي الديمقراطي، وتدعو صراحة إلى إطاحة البنية السياسية التي أفرزها الانتقال الديمقراطي، وتركز جهودها على حالةٍ من التنازع مع كتلة حركة النهضة، ورئيسها راشد الغنوشي الذي تولى رئاسة البرلمان.
تحوّلت الجلسات في البرلمان التونسي إلى مشاهد دائمة من الصراخ والشتائم المتبادلة بين الكتل المختلفة، والتي كانت كتلة الحزب الدستوري طرفا أساسيا فيها، خصوصا بعد رفض النواب المنتمين إليها قراءة الفاتحة ترحما على شهداء الثورة، بل وتعمّدت عبير موسى التقليل من شأن التحوّل السياسي التونسي، والسخرية من شهداء الثورة وجرحاها، الأمر الذي دفع ذويهم إلى الاحتجاج والتهجم على النائبة المذكورة التي حاولت الظهور بمظهر الضحية التي يتم استهدافها لمواقفها السياسية.
تقتضي محاولة فهم جذور ما يجري من فوضى في البرلمان التونسي الحالي إدراك طبيعة النظام الانتخابي التونسي الذي أفرز مثل هذه الفسيفساء الحزبية، وإذا كان من الممكن تفهّم استخدام القانون الانتخابي القائم على أساس "أكبر البقايا" عند اختيار المجلس التأسيسي سنة 2011، وذلك لضمان أكبر تمثيلية ممكنة لكل القوى والتوجهات عند كتابة الدستور، فإن 
استمرار البنية القانونية ذاتها لاختيار النواب، تحوّل اليوم إلى مصدر لعدم الاستقرار والفوضى السياسية العارمة، فقد عجز البرلمان الحالي عن التوافق سياسيا من أجل إقرار حكومة تتشكل من الأحزاب، وقادرة على تسيير البلاد، ما أدى إلى اللجوء إلى خيار استحضار شخصياتٍ سياسيةٍ من خارج الأحزاب، لتولي المناصب الحكومية، بما يناقض أصلا فلسفة الأنظمة البرلمانية، حيث يختار الناس ممثليهم من أجل تطبيق برامجهم في الحكم. ولكننا في تونس اليوم نجد أنفسنا أمام أحزابٍ غير قادرة على الحكم، إما لأنها لا تملك ما يكفي من الحضور لتشكل الحكومة، أو لأنها تتنصّل من الحكم أصلا وتستمرئ موقع المعارضة التي لا تتبعها محاسبة، أو هي في أسوأ الأحوال لا تعترف أساسا بالنظام السياسي الحالي، كما يفعل بقايا نظام الاستبداد ممن لا يقدّمون بدائل للحكم، ولا يشاركون في مفاوضات تشكيل الحكومة، ويقاطعون مؤسسة الرئاسة، في حالة غير سويةٍ، كما نلاحظها لدى الحزب الدستوري وداعميه، ممن لا يخفون توجهاتهم التي تختزل حضورهم النيابي، لمجرد تصفية الحساب مع الثورة 
التونسية ليس أكثر، عبر ترذيل العملية الديمقراطية، وتصويرها مصدرا للفوضى والعجز، بما يدفع الرأي العام إلى الشعور بنوعٍ من الحنين إلى زمن الاستبداد.
إذا كان من الطبيعي أن تفرز الأنظمة الديمقراطية حالةً من التنوع والتعدّد وأن تمنح الجميع، بمن فيهم خصومها، فرصة الصعود السياسي والمساهمة في الشأن العام، غير أن ما يجري اليوم في تونس تجاوز حدّه، ويتطلب مراجعةً للقانون الانتخابي أولا، ولنمط أداء النواب الذين يتمتعون بامتيازاتٍ من أموال دافعي الضرائب، لأن ما يحدث حاليا من فوضى تحت قبة البرلمان لا يخدم التحول السياسي في تونس بأي شكل.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.