في إساءة ترامب استخدام السلطة

في إساءة ترامب استخدام السلطة

03 يناير 2020
+ الخط -
هل تنحصر جرائم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في ظل المشكلات التي تعاني منها بلاده، والتحدّيات التي يواجهها شعبها، في مجرد إساءته استخدام سلطته، وعرقلة عمل الكونغرس، وهو ما سيسوقه إلى محاكمة، واحتمال إدانته على هذه الجرائم، وربما عزله؟ وتوفَّرت، خلال فترة حكم ترامب، وقبلها، خلال حملته الانتخابية، عناصر إدانةٍ تدفع إلى محاكمته بتهمٍ كثيرةٍ، ليس أقلّها الحض على الكراهية بسبب تصريحاته العنصرية. ومن الأميركيين من يرى في ما اقترفه انتهاكا لما يحلو لهم تسميتها "القيم الأميركية"، وهي القيم التي لم تدفع هؤلاء إلى الدعوة إلى عدم انتخابه، حين كان يهجس بخطابه الشعبوي.
ومتوقعٌ أن يمْثُل ترامب قريباً أمام المحكمة التي ستتشكل من أعضاء مجلس الشيوخ، بعد أن وجَّه له مجلس النواب، في 18 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، تهمة إساءة استخدام السلطة، أي استغلالها من أجل توجيه اتهامات لنجل نائب الرئيس السابق، جو بايدن، منافسه في الانتخابات المقبلة. كذلك تهمة عرقلة عمل الكونغرس، فيما يخصّ التحقيق في قضية التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية الأميركية. وفي التهمتين هنالك اشتباه في تورّط أوكرانيا عبر رئيسَيْها، السابق، بترو بوروشنكو، وتدخُّل بلاده في الانتخابات السابقة 2016، أو في انتخابات الكونغرس، والرئيس الحالي، فلودومير زيلينسكي، وضغط ترامب عليه لفتح تحقيق 
في تهم فساد تطاول ابن بايدن للنَّيْل من سمعة والده.
ليس الجو السائد حالياً في الولايات المتحدة، والذي تخيّم عليه سحب إدانة ترامب، سوى استمرار لحال الانقسام التي سادت خلال حملته الانتخابية، واستمرت بعد وصوله إلى البيت الأبيض وتبوئه منصبه رئيساً، فقد ساد استقطابٌ حادٌّ في المجتمع الأميركي خلال الحملة الانتخابية، بسبب ترشُّح شخصٍ مثيرٍ للمشكلات، وفالت من عقاله، وليس للقيم الأخلاقية لديه مكان. وتسبّبه في الاستقطاب هذا جريمة يحاسب عليها الرئيس الذي من مهامه تخفيف الانقسام في المجتمع. وما زالت هذه الحال سائدةً، وتزيد في هذا الاستقطاب والانقسام؛ إذ أظهرت نتائج استطلاعٍ أجري بعد يوم من تصويت مجلس النواب أن أكثر من نصف الأميركيين يؤيدون محاكمة ترامب وعزله، بينما يرفض ذلك الباقون. وتبيَّن أنه لم يسعَ إلى إعادة توحيد الأميركيين على شخصه باعتباره رئيساً لجميع الأميركيين، بل مارس عمله بصفته رئيساً للجمهوريين الذين صفقوا لأول إنجاز له، وهو إلغاء برنامج "أوباما كير" الذي يلحظ الفقراء في الرعاية الصحية.
وتخوَّف الأميركيون من نسف ترامب العرف السائد، الثابت والمعروف في سياسة بلادهم، منذ 
أيامه الأولى في البيت الأبيض، فسياسة المرشح للرئاسة لا تبقى نفسها بعد وصوله إلى المنصب؛ إذ يتوقعون فيها انحسار تحزُّب الرئيس وتراجعه عن الخطاب الشعبوي الذي كان يتبنّاه خلال الحملة الانتخابية، بسبب اصطدامه بالمؤسّسات التي تحدّد له هذه السياسة، والتي عادةً ما تكون مخالفةً لشعاراته وتراعي مصالح البلاد والقانون. ولكن ترامب لم يراعِ هذا العرف، فاتخذ قراراتٍ تثير الكراهية تجاه المسلمين وأبناء أميركا اللاتينية وتقسم المواطنين بين مؤيد ومعارض.
ومن تلك القرارات إعلانه إقامة جدار فصل على الحدود مع المكسيك، وقرار منع دخول مواطني سبع دول إسلامية إلى أميركا. ورأى الأميركيون فيهما قراراتٍ عنصريةً تؤثر على صورة أميركا، البلد المنفتح ، وتؤثر على مصالحها المتشابكة مع هذه الدول. على أثر هذا القرار، وما تلاه من قرارات قضائية اتخذها قضاةٌ لتعليق العمل به، تكرست صورته متلاعباً بالقوانين، ومحاولاً العمل خارج إطار المؤسسات. وظهر هذا الأمر جلياً عند إقالته وزيرة العدل بالوكالة لرفضها تطبيق القرار، وهو إجراء إقالة عادة ما تَنتقد واشنطن دول العالم الثالث لاتباعه.
ويبقى السؤال لماذا ركّزت رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، على هذين الاتهامين وبين يديها وفرة من الجنح والتهم التي تؤهلها لعزل ترامب وتجريمه أيضاً؟ يقول محللون أميركيون إن حصر اهتمامها في هذين البندين سبُبه عملية التدخل الخارجي. التدخل الخارجي الذي يكبر لديها على حساب العواقب الداخلية التي خلفتها سياسة ترامب على البلاد ومواطنيها. ومن الواضح أنها لا تأبه لانسحابه من اتفاقية المناخ الدولية، ما يعرِّض حياة 
الأجيال المقبلة للخطر. ولا تأبه لانسحابه من الاتفاق النووي مع طهران، والذي عرَّض المنطقة العربية ومنطقة الخليج مرتين للحرب في عهده القصير. كما لا تأبه لتحقيره المرأة عموماً وتحقيره إياها مراراً، وهجومه على حرية الصحافة والإعلام، الأيقونة التي تتباهى بها أميركا.
ولا تلحظ بيلوسي هجومه على برامج الرعاية الصحية وبرامج الحد من انتشار الأمراض السارية، وعلى مؤسسات حماية العمال من الأخطار ومنظمات حماية البيئة. كما أنها لم تلحظ في عهده تردّي حال العمال والمزارعين وزيادة نسبة البطالة وإغلاق مكاتب حماية المستهلكين، ولم تلحظ انخفاض الإنتاج في بعض القطاعات. ولُوحظت في إجراءاته تلك ملامح الفوضى التي يمكن أن تُدخل المجتمع الأميركي في أتونها، وتهدّد حال الاتحاد، إن لم تجد في أشخاصٍ من أمثال بيلوسي معارضين لها، لكن المرأة لم تفعل. واجراءات ترامب لضرب تلك المكتسبات تعدُّ تهماً يمكن أن يحاكم عليها الرئيس الذي يجري انتقاؤه من أجل تعزيزها، لا من أجل تحطيمها.
من هنا ظهر الشعب الأميركي بعيداً عن اهتمامات ساسة بلاده، وبدت المشكلات التي تعاني منها البلاد خارج أولوياتهم. فمن جهةٍ، هنالك الرئيس الذي يتحيَّن الفرص للانقضاض على ما تحقق للشعب من مكتسبات، ويتخذ قراراتٍ تعقِّد مشكلات البلاد. وهنالك مجلس النواب الذي يصم أذنيه عما يفعل الرئيس ويعد جرائم حقيقية، مقابل اتهامه بقضايا لا تمت للتحديات التي تنتصب أمام الجميع بصلة.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.