تونس والتصعيد العسكري في ليبيا

تونس والتصعيد العسكري في ليبيا

03 يناير 2020
+ الخط -
الظاهر أن التدخل العسكري الأجنبي في ليبيا أصبح أمرا واقعا، والقرائن الدالّة على ذلك كثيرة، أهمها تزايد وتيرة التنسيق بين كتائب اللواء المتقاعد خليفة حفتر والقوّات المصرية، ومليشيات الجنجويد السودانية، ومرتزقة شركة فاغنر الروسية التي استجمعت، على امتداد تسعة أشهر، قواها للسيطرة على طرابلس. ولكن على الرغم من احتدام المعارك على تخوم العاصمة، لم تحقّق القوّات المهاجمة تقدّما ميدانيّا معتبرا، غير أنّها أربكت السلم الاجتماعي، واستهدفت مرارا مواقع مدنية من قبيل مآوي اللاجئين، والطواقم الطبية، والمؤسّسات التعليمية، والمراكز البحثية، والأحياء السكنية. وأمام تزايد هجمات المليشيات المسلّحة، متعدّدة الجنسيات، على طرابلس ومدن الغرب الليبي، في ظلّ صمت المجتمع الدولي، وتخاذل الدول العظمى في دعم مشروع الدولة المدنية، وعدم جدّيتها في وضع حدٍّ لطموحات حفتر العسكرية، وجدت حكومة الوفاق الوطني نفسها مدفوعةً إلى إبرام اتفاقيتي تعاون أمني/ عسكري وبحري مع تركيا التي أبدت استعدادا لتقديم المساعدة اللوجيستية والفنية والاستخبارية للحكومة الشرعية، المعترف بها دوليّا، وذلك لحماية مصالحها في ليبيا من ناحية، ولوضع حدّ لتمرّد حفتر والمليشيات الموالية له من ناحية أخرى. ومن غير البعيد أن ترسل أنقرة قوّاتٍ برّيةً في حال طلبت حكومة الوفاق ذلك. وأثار التعاون بين البلدين حفيظة دول مثل اليونان، وقبرص، وإيطاليا، ومصر، لأنّها رأت فيه تهديدا لمصالحها في ليبيا وحوض المتوسّط، وبلغ الأمر بالمشير عبدالفتّاح السيسي درجة التلويح بإمكان التدخّل العسكري المباشر في ليبيا، معتبرا حكومة الوفاق في طرابلس برئاسة فائز السرّاج "أسيرة المليشيات الإرهابية".
وللتدخل العسكري الأجنبي في ليبيا أشكال متعدّدة، من قبيل الصراع على الأجواء الليبية أو 
تبادل ضربات موضعيّة خاطفة، والقيام بعمليات إنزالٍ في مناطق معينة. ومن المحتمل بعد دحر أتباع حفتر من مدينة غريان الاستراتيجية أن تجدّ مواجهات مباشرة بين قوّات بركان الغضب والكتائب الموالية للواء المتقاعد المتمركزة خصوصا في ترهونة، وقصر بني غشير، والأصابعة، وقاعدة الجفرة الجوية . كما لا يستبعد ملاحظون حصول التدخل الأجنبي برّا، من الجهة الشرقية، انطلاقا من مصر، لتأمين انتشار أوسع لأتباع الجنرال حفتر. وهو احتمال ضعيف لتكلفته الباهظة ولطول المسافة بين شرق ليبيا وغربها، وصعوبة تأمين خطوط الإمداد لقوّات "الفتح المبين". وفي كلّ الحالات، يعاني المدنيون ويلات النزوح الاضطراري، والتهجير القسري، والقصف العشوائي، جَرّاء حربٍ ضروسٍ لم يختاروها، بل تمّ فرضها عليهم.
ومع أن من الصعب التكهّن مسبقا بمآلات التصعيد العسكري في ليبيا، ومداه الزمني والمكاني على جهة التحديد، فإن الثابت أن هذا التصعيد ستكون له تداعيات خطيرة على دول الجوار عموما، وعلى تونس خصوصا. وتخبر تقارير متواترة من الحدود التونسية الليبية بتوافد ممثلين لمنظمات الإغاثة الدولية، والصليب الأحمر، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) بما يشير إلى استعداداتٍ استباقية حثيثة للتعاطي مع تداعيات الوضع المتوتّر في ليبيا. ويُخشى، من الناحية الأمنية، أن يغتنم متشدّدون الحرب، فيندسّوا في صفوف اللاجئين المتجهين صوب تونس، ولا يستبعد أن يُحوّل هؤلاء الصراع إلى الداخل التونسي عبر القيام بأعمالٍ إرهابية، 
انتقامية، استعراضية، تهزّ السلم الاجتماعي، وتربك اقتصاد البلاد. وتندرج ضمن سعي أنصار حفتر، أو أتباع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وأخواته إلى التمدّد وتوسيع دائرة الرعب، والنكاية بتجربة تونس الديمقراطية الوليدة.
يُضاف إلى ذلك أن الشريط الحدودي بين البلدين يمتد على مسافة مئات الأميال (حوالي 500 كلم)، ما يجعل مراقبته التامة والدقيقة أمرا على غايةٍ من الصعوبة، وهو ما يُغري أباطرة التهريب، وتجّار السلاح باغتنام ظرف الحرب لتمرير الممنوعات على اختلافها. كما ستزدهر التجارة الموازية، ومحاولات إفراغ السوق التونسية من الأدوية، والمواد الغذائية الأساسية بغرض بيعها في الأراضي الليبية بأسعار خيالية، وهو ما سيؤثّر سلبا على الوضع المعيشي لمعظم التونسيين. كما أن تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين الليبيين يُنذر باختلال التوازن بين العرض والطلب، ويؤدّي، بالضرورة، إلى تزايد وتيرة الاستهلاك في مقابل نقص البضاعة وقلة الإنتاج أو نفاده في الأسواق. وهو ما ينتج منه شيوع الاحتكار، وارتفاع الأسعار، ما يزيد من معاناة الطبقات الاجتماعية الهشّة، ويحول دونها وتحقيق الكفاف. كما أن خروج اللاجئين من المخيمات والتحاقهم بالمناطق الحضرية يزيدان لا محالة من ارتفاع أسعار الإيجار والعقار، ويخدمان مطلب الجشع والكسب السريع لدى السماسرة، والوسطاء، والمُهرّبين وغيرهم. والواقع أن ما يؤدّي إليه التنازع العسكري من إغلاقٍ للمعابر بين البلدين يهدّد بإحالة آلاف التونسيين الذين يقتاتون من المبادلات التجارية بين القُطرين على البطالة القسرية، وذلك
 في ظل عدم وجود مواطن شغلٍ بديلة في المناطق الحدودية، الطرفية التونسية. وقد يطول ذلك الوضع الطارئ، وقد يقصر، وسيولد حالة من الاحتقان الاجتماعي، ويزيد من موجات الاحتجاج المطلبي على الحكومة التونسية الجديدة التي ستواجه عدّة متاعب، وعدّة تحدّيات، في مقدمتها تدهور المقدرة الشرائية للمواطنين، وشيوع الاحتكار، وانتعاش الإرهاب والتهريب، وانخرام الأمن، واحتمال تهديد التجربة الديمقراطية الناشئة.
ومع أن الاتحاد الأوروبي والدول الصديقة لتونس في حلف شمال الأطلسي، سبق أن قدّمت تطمينات لتونس بعدم اتساع رقعة الحرب، وعدم تأثيرها على الداخل التونسي، فإن التصعيد العسكري في ليبيا يبدو غير مأمون العواقب، وغير معروف الخواتم، وتبدو انعكاساته على تونس خطيرة، وهو ما يقتضي من أصحاب القرار في البلاد الاستعداد لوجيستيا وأمنيا واقتصاديا لتداعيات الحرب المفروضة على طرابلس على نحوٍ يخفّف من انعكاساتها السلبية على عموم التونسيين.
ختاما، من المهمّ أن تخرج الديبلوماسيّة التونسية من دائرة الحياد السلبي إزاء الوضع في ليبيا، وأن تنخرط في مبادراتٍ جدّية لبلورة مشروع حلّ سياسي، سلميٍّ للأزمة الليبية. ومن المفيد في هذا الخصوص إقناع الأطراف المتنازعة بأهمّية البناء على مضامين اتفاق الصخيرات، وقرارات الأمم المتحدة بشأن الحالة الليبية، والتوجّه نحو إقامة دولةٍ مدنية، ديمقراطية، موحّدة، جامعة. ومن الضروري العمل على إشراك تونس في فعاليات مؤتمر برلين المزمع عقده للتداول في الشأن الليبي، لأنّ تونس من أكثر الدّول تضرّرا بسبب استمرار الحرب في ليبيا، ولأنّ أمن تونس وازدهارها من أمن ليبيا واستقرارها لا محالة.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.