شهرزاد والرفيقة بثينة

شهرزاد والرفيقة بثينة

19 يناير 2020

بثينة شعبان تتحدث في منتدى في موسكو (19/2/2018/Getty)

+ الخط -
في الليلة الأولى، قالت لنا شهرزاد إن الرفيقة بثينة شعبان لا تشبهها. وقالت: كل الذين قرأوا "ألف ليلة وليلة" لم يروْني، ولكنهم يجمعون على أنني جميلة. من أين أتاهم هذا الشعور؟ هل رسموا لي صورةً جميلة في خيالهم، يا ترى، أم هناك أشياءَ أخرى دفعتهم إلى تأكيد هذه الفرضية؟ كنت أهتم بجمالي كثيراً، فأنا زوجة ملك جبار قَتل نساءً كثيراتٍ قبلي. كنت أسأل مرآتي، فتقول لي: نعم، أنت جميلة، يا شهرزاد، فأصدّقها، ولكنني، بعد لأي، أفكرُ أن المرايا مختصّات بخداع النساء. 
في مملكةٍ بعيدةٍ اسمها إيطاليا، كان هناك رجل شديد الذكاء اسمه دينو بوتزاتي، حكى للناس حكاية لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر. قال دينو إن إحدى النساء شكت لرفيقتها من رجال هذه الأيام الذين لا يقدّرون المرأة حق قدرها. رجال الأمس كانوا بمجرد ما يدخلون مكاناً أو يعبرون سوقاً ويروننا تتسمّر أعينهم علينا، ويبدأون محاولاتهم المستميتة لفت أنظارنا. اليوم يمر بنا الشبّان وكأننا أشياء فائضة عن اللزوم، فيا له من إهمال قاتل. ردّت عليها رفيقتها بأن الحق ليس على الشبان، بل على المرايا. أنا أنظر في مرايا هذا الزمان فلا أجد وجهي كما كنت أراه في مرايا الأيام القديمة. المرآةُ اليومَ تشوّه زاوية فم المرأة، وترسم على جبينها وتحت عينيها خطوطاً عجيبة، ويبدو أنفُها أكبر مما هو عليه في الواقع. إن صناعة المرايا في العصر الحديث تراجعت على نحوٍ لا يطاق.
نسألها: إلى أين تريدين أن تصلي بحديثك، يا شهرزاد؟ فتجيب: أريد أن أقول إن الرفيقة بثينة شعبان ليست قبيحة، كما يعتقد بعضكم، ولكنها تخاطب الناس بجلافة، وتستحلي منطق النظام المستبدّ الذي تتحدّث باسمه، ويتلخص في احتقار الشعب. بثينة تعرف أن واقع أهل الشام تقهقرَ بما لا يقل عن خمسين مرة خلال الحرب التي تشنّها إيران وروسيا بمساعدة ابن حافظ الأسد على الشعب. ومع ذلك، زعمت أن الرفاهية ازدادت خمسين مرة. هذا، يا سادتي، يشبه منطق رجلٍ من أهل الحضر دخل سوق المدينة وهو يمشي بخيلاء، قائلاً بلسان حاله "يا أرض اشتدي ما حدا قدّي"، إلى أن وصل إلى مكان وقف فيه، ونادى الناس أن يأتوا إليه، فلما تجمّعوا حوله وضع قدمه في مكانٍ ما، وقال: اعلموا أن مركز الكون هنا، تحت قدمي. دُهش الناس، وبدأ اللغط، إلى أن قال له أحدهم: أنت كاذب. فقال: أكون كاذباً في حالةٍ واحدة، وهي أن تأتي أنت بما يلزم من الأدوات، وتجري القياسات اللازمة لتثبت لي أن مركز الكون في مكان آخر.
في الليلة الثانية، زعمت شهرزاد أمامنا أن الإنسان لا يكره الكذب، ولكنه يكره التزوير. وقالت: أنا، مثلاً، لم أستطع رَدَّ الموت عن بنات جنسي بالقوة، فحاولت ردّه بحكاياتٍ تشبه الكذب. كان مليكي شهريار، كما تغني فيروزكم، يبدّدُ النساء، ويسهر كل ليلة، ولكن قلبه لم يطاوعه أن يبدّدني، فأنا التي حولته من رجل مستبد إلى إنسان رائق، رجل لا يأكل النساء ويرميهن كالقشور، وإنما يقف أمامهن باحترام.. لقد جعلتُه، باختصار، أسيرَ الحكاية.
في الليلة الثالثة، قالت شهرزاد إن شهريار كان رجلاً مع مَن تستطيع أن تكون له أنثى، يشيح بسمعه عن الهذر (والعلاك)، ويصغي لامرأة تجيد الكلام. لذا سألني ذات يوم: ماذا يحصل، يا شهرزاد، إذا تحوّل التراب إلى ذهب؟ قلت له: وقتها تصبح قيمة الذهب بقيمة التراب، يا مولاي. وقلت: سيأتي عصر يختلط فيه الحابل بالنابل، زمن يتحوّل فيه الزعران إلى حكام، والأوباش إلى وزراء، والأغبياء إلى محلّلين سياسيين. وليس مستغرباً، في ذلك العصر، أن تسمع أي كلام، وبضمن ذلك كلام الرفيقة بثينة.

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...