العراق في غيبوبة السيادة

العراق في غيبوبة السيادة

19 يناير 2020
+ الخط -
كسجين أيقظه الحلم على باب مفتوح، فاتبع حلمه حتى ارتطم بالقضبان، ذلك ما حدث مع العراق ذات حلمٍ مزيّف بالسيادة، حين اتخذ قادته قرارًا بضرورة مغادرة القوات الأميركية بلاد النهرين، فارتطموا بمن يقول لهم إن العراق ما يزال محتلًّا أيها الأغبياء. كان حلمًا، على أي حال، ومن حق القادة أن يحلموا، أيضًا، غير أن الحلم لا يدخل في أعمال السيادة الحقيقية، وإلا لتغيّرت مصائر وتبدلت أحوال بلاد وبلاد، غير أن ما يدفع إلى التساؤل هنا: كيف اعتقد قادة العراق، برئيسهم ووزرائهم ونوابهم، أن العراق بلد حرٌّ؟ 
لعل معضلة هؤلاء القادة أنهم نسوا، في حمأة ما ظنّوه "سيادة"، أن من يدخل العراق على ظهر دبابة أميركية، ويشغل منصبه بقرار أميركيّ، يستحيل عليه أن يتخذ قرارًا سياديًّا واحدًا خارج الرغبة الأميركية، فما بالك إن كان القرار "طرد القوات الأميركية"؟ ربما كان اغتيال قاسم سليماني على أرض العراق بصاروخ أميركي سببًا في إيقاظ المخدوعين بالسيادة من وهمهم، غير أن الأغرب أن تكون الصواريخ الأميركية ذاتها التي سحقت العراق قبل ذلك سببًا في دخول هؤلاء المخدوعين في غيبوبة السيادة منذ العام 2003، ففي ذلك العام المشؤوم، بدأ الاحتلال العسكريّ الأميركي للعراق، بتعاون وثيق مع هؤلاء "القادة" الذين سهّلوا ومهّدوا وعبّدوا الطريق للمحتل؛ ظنًّا منهم أن أميركا إنما تفعل ذلك من أجل "عيون الحرية"، وتخليص العراقيين من حكم صدّام إلى آخر تلك الشعارات التي ساقتها لتبرير الاحتلال. أما الهدف غير المعلن، فكان أكبر بكثير من أوهام هؤلاء القادة المخدوعين ببساطير المارينز، ذلك أن أميركا لا تخوض حربًا ولا تقترف احتلالًا في منطقتنا إلا لتحقيق مصلحتين وحسب: مصلحتها في بسط سيادتها على موارد المنطقة، ومصلحة الكيان الصهيوني في إخماد أي خطرٍ يتهدّده، وما دون ذلك فليس يهمها أن تمنح المتعاونين معها أدواتٍ سياديةً صوريّة، كالمقاعد الرئاسية والوزارية أو البرلمانية، ولا بأس من منحهم أيضًا ميكرفونات مدوية لزوم الخطابات والمجادلات، وربما الغناء أيضًا.
والأمر ذاته انسحب على المليشيات التي ساندت الاحتلال الأميركي، ولعبت أقذر الأدوار في إشعال الفتن الطائفية، واقتراف أبشع المجازر، بذريعة تطهير العراق من فلول البعثيين وأعوانهم، فهي مليشيات دخلت العراق أيضًا تحت ظلال الحراب الأميركية، وكانت ترى في هذا المحتل هبةً إلهية طارئة، ستقضي على خصومها، وسرعان ما ترحل بعد أن تؤدي مهمتها "المقدّسة" على أرض العراق، غير أن الصاروخ الذي أجهز على سليماني ورهط من كبار قادتها، أيقظها، هي الأخرى، على حقيقة أن المحتل لم يرحل بعد، وأنها لم تكن غير مطيّة للاحتلال، لا يحق لها الاعتراض ولو على اغتيال قادتها، وكان ارتطامها بقضبان الحقيقة أعنف مما زيّن لها الوهم، بعد أن وجدت نفسها محض أداةٍ انتهت صلاحيتها.
الأغرب من هذا وذاك أن غيبوبة هؤلاء القادة والمليشيات زيّنت لهم أيضًا أن ثمة محتلًّا على وجه الأرض يمكن أن يرحل ببساطة، هكذا من دون مقاومة أو ثمن يدفعه الشعب المحتل لقاء تحرّره، فانخدعت بذلك الجلاء الصوريّ الذي زعمته الولايات المتحدة قبل سنوات، متناسيةً أن أميركا تركت وراءها أضخم القواعد في أرض العراق، وأكبر سفارة لها في الإقليم، ما يؤكد أنها لم ترحل فعليًّا ولم تمنح سيادةً واقعيةً لأحد خلفها، وأن في وسعها العودة متى شعرت بأقل تمرّد على هيمنتها الفعلية على العراق، وهو ما حدث عقب قرار البرلمان ورئاسة الوزراء العراقيين بضرورة رحيل القوات الأميركية عن بلادهما، فجاءت الصدمة التي حملتها وقاحة ترامب بالاستهزاء من هذا القرار ورفضه، وهو عين ما صرح به حلف شمال الأطلسي أيضًا.. فأي سيادة كان يتحدث عنها قادة العراق إذن؟
قلنا هما صاروخان أطلقهما مدفع واحد، الأول للغيبوبة، والثاني للصدمة، غير أن أحدًا لم يستيقظ بعد.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.