من قتلهن؟

من قتلهن؟

18 يناير 2020

(عصام معروف)

+ الخط -
فقدت سماح تاجها. قبل شهرين فقط كانت سماح تتلقى التهاني في عرسها، بينما ترتدي فستانها الأبيض وتاجاً ذهبياً، لاحقاً عادت لعملها لترتدي الأبيض أيضاً، أبيض المعطف الطبي بلا تيجان هذه المرة، أما اليوم فهي ترتدي الأبيض من جديد، لكنه أبيض الكفن في قبرها.
موتٌ عبثي جديد في مصر. مصرع أربعة منهم طبيبتان، وإصابة 17 منهم 11 طبيباً وطبيبة، في حادث سيارة. تتنافس مصر بحماس على صدارة الترتيبات العالمية لضحايا حوادث الطرق بالنسبة لعدد السكان. في عام 2018 التهمت الطرق المصرية نحو 15 ألف قتيل ومصاب، وهي أرقام لا نشهدها في حروبٍ ضارية.
أغلب الوقائع تحدث لركاب "الميكروباصات" المسافرين عبر المحافظات. لهذا السبب، بالضبط حاولت سماح وزميلاتها التملّص من الأوامر المفاجئة الصادرة من مديرية صحة المنيا قبل يوم ونصف فقط من موعد السفر بالتوجه فوراً إلى القاهرة لحضور تدريب.
أذكر جيداً كيف كنت أُتورّط بالسفر مراراً على خط الصعيد – القاهرة نفسه، ودائماً ما كنت أستقل القطارات، ولو واقفاً طوال ساعات الطريق، (ولو كان القطار من المستوى الأردأ والأخطر الذي يحمل اسماً رسمياً "المميز" للمفارقة العجيبة)، وعلى أسوأ الظروف أستقل إحدى حافلات شركات النقل. نحن أبناء الصعيد نعرف جيداً قصص الموت اليومي على هذه الطرق.
لذلك شهدنا بعد الحادث ظهور نصوص رسائل الطبيبات على مجموعة "واتساب" التي صدرت عبرها أوامر السفر الصارمة، حيث أبدت الطبيبات تخوّفهن من الحوادث، ويفضلن السفر بالقطار، لكن مسؤولي الإدارة صمّموا وتوعدوا، لا مفر، رضخن تحت طائلة التهديد بالعقوبة الإدارية والنقل خارج المديرية. سافرن على الطريق الصحراوي السريع، الساعة الثالثة والنصف صباحا، لحضور التدريب في القاهرة والعودة في اليوم نفسه. وصفة تقليدية لكارثة تنتظر أن تقع.
ولأن الموت يومي فهو فاقد جلالَه، لذلك كان يجب أن يُضاف إليه ما يعيد إليه الهيبة. لذلك كان يجب أن يُقال إنهن موتى وشابّات من دفعة 2017، موتى وطبيبات، موتى وجميلات، موتى وبينهن عروس، موتى ومعهن مصاباتٌ منهن الطبيبة راعوث القس التي فقدت جنينها في الشهر الخامس، كما فقدت مستقبلها أماً بعد استئصال رحمها.
ولأن الموت يوميٌّ وفاقدٌ جلالَه، فإن من الممكن تجاهله لصالح مشاحنات الأحياء، فشهدنا عشرات المعلقين المجانين يتناولون مصير الضحية المسيحية إلى الجنّة أم النار، لماذا يعنيكم مصير الموتى، بينما أنتم في نار الدنيا بالفعل؟
يستميت عبيد منزل وعبيد حقل على السواء في الدفاع المجاني عن وزارة الصحة، لأن ما حدث مسؤولية وزارة النقل، ويستميت آخرون في دركٍ أدنى من العبودية في تحميل السائق وحده المسؤولية، واعتبار موته جزاءً وفاقاً على إجرامه. بينما في الواقع يمكن توسيع المسؤولية، لا تضييقها، فوزارة الصحة حقاً هي المسؤول المباشر، ويمكن توسيع المسؤولية لوزارات الداخلية والنقل، بسبب الأسباب المركّبة التي تؤدي إلى معدّل حوادث الطرق الخيالي، وعلى درجةٍ أعلى يمكن النظر إلى السياسات الاقتصادية العامة، وفي قلب صانعيها الرئيس عبد الفتاح السيسي، التي تفضل الإنفاق على مشاريع عقارية عملاقة، بديلاً عن قطاعات الصحة والتعليم وأمثالها، وتكفي هنا الإشارة إلى مخالفة نصّ المادّة الدستورية الخاصة بتخصيص نسبة 3% من الناتج المحلي للصحة.
ومن زاوية أوسع، ترتبط الكارثة بنمط عام من الحكم، فالأوامر الفوقية المفاجئة التي لا تُرد تشبه الأوامر العسكرية كأن الأطباء جنود معسكر، وكذلك نرى التركيز في تحقيق الأهداف الورقية من دون اعتبار لحياة البشر كأضرار جانبية.
كان يمكن تفادي كل هذا الألم العبثي بتعديلاتٍ بسيطة جدا، لا نطمح إلى توفير وسائل مواصلات آمنة على نفقة الحكومة، سقوف سمائنا أدنى من حجارة بئرنا، فقط كان يكفي إعلامهن بموعد التدريب قبله بأسبوعين. بل كان يمكن ببساطةٍ عقد هذا التدريب البدائي على طرق كشف سرطان الثدي في المنيا نفسها، وهو لا يتطلب أي إعدادٍ خاص، أو خبرات نادرة في القاهرة وحدها!
"ونحن لم نحلم إلا بحياة كالحياة"، أو حياة يمكن حفظها كالحياة".