مؤتمر برلين: ليبيا أكبر من حفتر والسّراج

مؤتمر برلين: ليبيا أكبر من حفتر والسّراج

18 يناير 2020
+ الخط -
جرى تحديد يوم غد الأحد موعداً لانعقاد مؤتمر برلين الخاص بالأزمة الليبية، بعد أن تعرّض هذا المؤتمر للإرجاء أكثر من مرة، ومن دون تبيان أسباب التأجيل، إذ عكفت الحكومة الألمانية، منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، على التحضير للمؤتمر، مع التلويح بقرب انعقاده، من دون أن يتحقق ذلك. وقد تبدّى أخيرا أن خلافات صامتة بين الدول المعنية أدّت، في كل مرة، إلى تعويم موعد الانعقاد، فضلاً عن تعويل بعضهم على "معارك الحسم" التي كان قد أعلنها الجنرال خليفة حفتر غير مرّة، للاستيلاء على العاصمة طرابلس، وهو ما لم يتحقق في حملته التي انطلقت في الأسبوع الأول من إبريل/ نيسان الماضي. 
وقد تم، في البداية، استبعاد حضور كل من رئيس المجلس الرئاسي الليبي، فايز السراج، وقائد "الجيش الوطني" خليفة حفتر، لكن الرأي استقر أخيرا على دعوتهما لحضور المؤتمر عالي المستوى، إذ ينعقد على مستوى قادة الدول، بينما تم تغييب دول المغرب العربي الأكثر تماسا بالأزمة الليبية، المغرب والجزائر وتونس، إلا أن المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، تداركت الأمر بخصوص الجزائر، ودعت الرئيس عبد المجيد تبون الذي سبق له أن صرّح، عقب انتخابه رئيسا لبلاده، بأن "طرابلس خطٌّ أحمر"، فيما تواصَلَ استبعاد تونس التي تستقبل الهاربين من الصراع الدائر، وبعضهم جرحى الصراع، بينما تقيم جاليةٌ تونسيةٌ كبيرة في ليبيا. كما تم استثناء المغرب التي استضافت حواراتٍ ليبيةً عديدة، أهمها في الصخيرات، ونجم عنه الاتفاق الذي يحمل اسم هذه المدينة، ووقّع في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2015، وأسفر عن تشكيل حكومة الوفاق التي نالت أوسع اعتراف دولي. أما الدول التي تمت دعوتها فتضم الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، الولايات المتحدة والصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة، والبلد المضيف ألمانيا، وإيطاليا وتركيا ومصر والإمارات، فيما أفادت تقارير بدعوة البلد الأفريقي الكونغو، فيما هو ليس بلدا متاخما لليبيا، مثل تشاد أو النيجر.
ويسترعي الانتباه أن مؤتمر برلين ينعقد بعد أيام على مؤتمر موسكو بمبادرة روسية تركية 
لإعلان وقف إطلاق النار، وقد وقعت الحكومة الليبية، المعترف دوليا بها، على الاتفاق، إلا أن حفتر عكف يومين على قراءة الاتفاق، ثم طلب مُهلة يومين للرد على "العرض". وكان تحرّك هذا الرجل من شرق ليبيا باتجاه العاصمة قد تزامن مع وجود أمين عام الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، في ليبيا، للتحضير لمؤتمرٍ كان مزمعا في إبريل/ نيسان الماضي. وبطبيعة الحال، ذهبت هباء جهود الأمم المتحدة، ومبعوثها غسان سلامة، لرعاية دولية لحل سياسي. فالجنرال حفتر (75 عاماً) يؤمن بالحل العسكري أولا للقضاء على المليشيات في طرابلس وسواها، علما أن قواته تضم مليشيا سلفية وأخرى قبلية، إضافة إلى مرتزقة أجانب، وجنود من عهد معمر القذافي. لكنه نجح، بدعم فرنسي أساسا، في وضع هيكليةٍ لجيشه تضم هذا الخليط. وبينما يرفع لواء مكافحة الإرهاب، فإن قوات حكومة الوفاق هي التي خاضت أبرز المعارك ضد مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وطردتهم من مدينة سرت. وبينما تضم قوات الوفاق مقاتلين إسلاميين، فإن لدى حفتر من يماثلهم من السلفيين.
وبالنظر إلى ما جرى قبل أيام في موسكو (يخرج منها مرتزقة فاغنر للقتال إلى جانب حفتر)، ورفض حفتر التوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار، فإن حظوظ مؤتمر برلين من النجاح لا تبدو كبيرة، مع استبعاد دول مهمة ومعنية مباشرة بالأزمة الليبية، مثل المغرب وتونس، ومع عدم إبداء أية درجة من الحزم للتلويح بفرض عقوباتٍ على الطرف، أو الأطراف الرافضة للحلول السياسية، والمتمسكة بخيار الحرب بين مكوّنات الشعب الليبي، فيما تعوز أبرز المقاربات الدولية للأزمة النزاهة الكافية، فباريس سبق لها الجمع بين السرّاج وحفتر، فيما كانت، وما زالت على الأغلب، تدعم الأول، وكذلك الحال مع موسكو التي تستثمر في الصراعات بأكثر مما تفعل في التسويات.
وسوى ذلك، ثمّة تقزيم للمسألة الليبية في المقاربات الدولية يجعل الأطراف المهتمة أو الطامحة تعزف عن أهمية وضع حلٍّ سياسي متماسك وملزم للجميع داخل ليبيا وخارجها، وتراهن، بدلاً من ذلك، على شخص الجنرال حفتر، فيما بعضها الآخر يراهن على شخص السرّاج لتحديد مصير هذا البلد، وهو رابع أكبر بلد مساحةً في أفريقيا (1,7مليون كلم مربع، بما يفوق بأضعاف مساحة المملكة المتحدة مثلا)، ويعتبر مصدرا مهما للنفط والغاز، لكن الإرادة الدولية والإقليمية تبدو عاجزة أو غير راغبة في تمكين شعبه من إعادة بناء دولته التي تركها عهد معمر القذافي قاعاً صفصفا، ثم تناهشها بعدئذ الإرهاب والصراع المحموم على السلطة، والانقسامات الاجتماعية والمناطقية، وثقافة سياسية موروثة تزهد بالحاجة إلى دولة عصرية جامعة!
سبق أن شكا المبعوث الأممي، سلامة، من المقاربات الدولية للأزمة، بما يسودها من انقسام 
وتضارب وتراخٍ، ما أعاق جهود الأمم المتحدة، ووضع عراقيل كأداء أمام الاحتكام إلى الاتفاقيات، وما شجع الأطراف الداخلية على إدامة الاحتراب، وبناء ترسانات عسكرية، على الرغم من القرار الدولي بحظر تصدير الأسلحة إلى هذا البلد. وفي واقع الحال، يمثل مؤتمر برلين الذي يُعقد بالتنسيق والتفاهم مع المنظمة الدولية تعويضاً عن المؤتمر الذي أفشل الجنرال حفتر انعقاده قبل تسعة أشهر، بزحفه على العاصمة، حتى أنه فاجأ آنذاك بعض حلفائه بهذا القرار العسكري. ولم تفلح حملة التجييش والزحف في الوصول إلى العاصمة طوال هذه الفترة. وقد جاء الاتفاق، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي بين أنقرة وطرابلس، ليغيّر في المعادلات على الأرض، بعد أن كان الدعم الإقليمي والدولي، بما في ذلك من دول ديمقراطية، متجها في معظمه إلى الجنرال حفتر الذي سبق له أن صرّح بأن "ليبيا ليست جاهزةً لتطبيق الديمقراطية فيها".
وعليه، تكاد الخيارات أمام مؤتمر برلين تنحصر إما في إطلاق الصراعات الإقليمية والدولية على ليبيا، وتوسيعها وجعل هذا البلد بؤرة توتر دائمة، ذات انعكاسات على شمال أفريقيا وعلى أوروبا، أو التقدم إلى حل سياسي ملُزم يمنح الليبيبن السلام والكرامة والأمن، وفرصة تقرير مصيرهم بعيدا عن التدخلات وسطوة السلاح.