لبنان: لحظة الحقيقة

لبنان: لحظة الحقيقة

18 يناير 2020
+ الخط -
"الحقيقة" ليست تفصيلاً، لكننا، وفي سياق تفاديها، نعمل على الابتعاد عنها، أو عدم تصديقها. نرغب في المحافظة على وهمٍ بنيناه إلى درجة سيطرته علينا، ما جعلنا منفصمين عن الواقع الحقيقي باختيارنا، ومبتعدين عن الحقيقة باختيار الوهم. تجلّت "لحظة الحقيقة" في لبنان في الأسبوع الحالي، بعد ليلةٍ عنيفةٍ شهدها شارع الحمرا في العاصمة بيروت، ليلة انصبّ الغضب فيها على المصرف المركزي اللبناني، والمصارف المجاورة له. هي لحظةٌ تداعى فيها أركان الحكم في لبنان، مدّعو الموالاة ومدّعو المعارضة ومدّعو الاستقلالية، ليهبّوا دفاعاً عن منظومة مصرفية ـ سياسية ـ إعلامية، كانت سبباً في تدمير البنية الاجتماعية اللبنانية، ومساهمة في وأد فرص الإصلاح المجتمعي، وفي تشريع أموال الفاسدين وكل من سرق البلاد، من أصغر متعهد إلى أكبر رأس.
بات الجميع على علمٍ بمأزق لبنان المالي، ولا أحد يبالي إذا تحوّل المواطنون إلى متسّولين. أصلاً هكذا اعتادت الأوليغارشية على التصرّف، بل عمدت، في العقود الماضية، على تحطيم كل نزعة للوعي: "تريد تعليم أولادك؟ اقرع بابنا"، "تريد معالجة نفسك؟ اقرع بابنا"، "تريد أن تعمل؟ اقرع بابنا"، "تريد أن تتنفّس؟ اقرع بابنا". يريد هؤلاء إقناعنا بأنهم على خلافٍ فيما بينهم، بينما الخلاف الأساسي هو في عقلنا فقط. يريدون لنا أن نموت من أجلهم، لا من أجلنا. تخيّلوا لحظةً لو تعمّم الوعي في لبنان، وأدركنا أن كرامتنا تقضي بالانتفاضة على الهدر والفساد في البنى التحتية، وعلى الوقوف طوابير في المصارف لتلقي أجورنا، وعلى إدراك أن ابن هذه الأوليغارشية، حين يقول إنه "مع الشعب" فإنه يكذب. قارنوا فقط بينكم وبينهم. كيف يمكن لمن يسكن معكم تحت سماء واحدة، وفي بلد واحد، أن يتصرّف بأموالكم التي سرقها منكم كما يحلو له، في وقتٍ يعيش فيه أكثر من 50% من اللبنانيين على حافّة الفقر أو تحته؟
يخشى بعضهم تحطّم وهمه أو صنمه الذي صنعه في الماضي، معتبراً أن سقوط هذا الصنم معنوي له، غير عالمٍ أن سقوطه هو بالذات حصل حين صنع هذا الصنم، والباقي تفاصيل. أما "الصنم" فغير مكترثٍ بغلاء المعيشة في لبنان، ولا في ارتفاع سعر السلّة الغذائية، ولا يبالي بالمواطن الذي يؤيده. الراديكالية، في بعض الأحيان، مطلوبة، خصوصاً حين يكذب الطرف الآخر. محتّم علينا قول "لا" في وجه من يريد إقناعنا بأنه قادرٌ على تخليص لبنان، فيما هو من دمّره وساهم في هجرة أبنائه. هل تصدّق أن اللصّ الذي سرق بيتك قادرٌ على حمايته من السرقة؟ لا بل يخيّرك بين "الخوّة" والسرقة. في الحالتين إنها سرقة.
"لحظة الحقيقة" تستحّق التأمّل، والنظر إلى هذا المزيج من أمراء الحرب ورجال الأعمال الفاسدين ورجال الدين، عليه أن يدفعك إلى افتراض أمرٍ واحد فقط: لا يمكن لهؤلاء ائتمانهم على سيارةٍ لركنها في موقف سيارات، فكيف تأتمنهم على بلدٍ؟ اسألوا أنفسكم: "هل يعاني هؤلاء من نقصٍ مالي أو يخشون عدم حصولهم على علاجٍ، كما نعاني نحن؟". دعوا الشكّ المعرفي يتغلغل في عقولكم. الشكوك تصل إلى الحقيقة، وهي متوفرة في لبنان على فكرة. سهل عليكم إزاحة الوهم قليلاً، وتحطيم أنف الصنم الزعماتي الذي صنعتموه، وسترون أن قتالكم في سبيل حياة حقيقية في لبنان أفضل بكثير من الخضوع لرغبات حزبٍ وزعيمٍ ولأهوائهما.
تريد هذه الأوليغارشية إيهامكم بأن التغيير يعني موتكم، بينما يعني التغيير موتهم. وفي كل مرة يقترب فيها اللبنانيون من كسر هذه المنظومة، يشتدّ سُعار هؤلاء وأنصارهم. "لحظة الحقيقة" هي أبرز ما حصل في لبنان في السنوات الأخيرة: وضوح خصومنا يرسم وضوح أهدافنا. لا شيء عبثياً في الموضوع. التاريخ دورة، والدورة تطيح أعتى الطغاة، فكيف بمنظومة لبنانية؟ إنها "لحظة الحقيقة"، ما علينا سوى نطقها.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".