العروي يحاور مشروعه الفكري

العروي يحاور مشروعه الفكري

16 يناير 2020
+ الخط -
امتلأ مدرج ابن خلدون في كلية الآداب في الرباط يوم الأربعاء 8 يناير/ كانون الثاني الجاري، وضاق بكثافة الحضور الذي جاء للاستماع إلى درس افتتاحي للمفكر المغربي عبد الله العروي، بمناسبة تأسيس كرسي في الكلية يحمل اسمه. جاءت مبادرة تأسيس الكرسي من جامعة محمد الخامس في الرباط ومعهد العالم العربي في باريس، تقديراً من المؤسستين لنوعية الحضور الرمزي الذي يمثله في الثقافة والجامعة المغربيتين، واعترافاً منهما بالإشعاع الكبير لأعماله التي توالى صدورها في الفكر العربي المعاصر منذ أزيد من نصف قرن.
انتبه الذين حضروا الدرس الافتتاحي إلى نوعية الحضور وكثافته، حيث امتلأ المدرّج وضاقت جنباته بأجيال من الراغبين في الاستماع إلى صاحب "العرب والفكر التاريخي" و"الأيديولوجية العربية المعاصرة" وسلسلة كتب المفاهيم، والتي ساهمت أطروحاتها في بلورة جدل أيديولوجي وتاريخي في الفكر المغربي وفي الثقافة العربية. وقد سمحت كثافة الجمهور بتذكّر جوانب من أمجاد الكلية نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، حيث انتظمت ندواتها المعروفة عن ابن خلدون وابن رشد والغزالي والفكر العربي والثقافة اليونانية.. إلخ، وهي أنشطة أغنت رصيد الجامعة المغربية.
أُعِدَّت المحاضرة بعناية وكتبت بدقة بالغة، وهي تُعَدّ محصلةً لخبرة سنوات طويلة في البحث 
والسؤال. تقاطعت داخلها أصواتٌ عديدة، على الرغم من أن المتحدّث واحد، كما تخللتها مواقف وإشارات وأمثلة، واستوعب زمن تقديمها لحظات صمت بليغة ودالة.. إلا أنها، قبل ذلك وبعده، رسمت خياراتٍ محدّدة في محورين اثنين، لهما علاقة مباشرة بمشروعه في النقد الأيديولوجي، وبالمناسبة التي أنجزت المحاضرة في إطارها.
توقف العروي في المحور الأول أمام مشروعه الفكري، محاولاً مساءلته في سياق الشروط التاريخية العامة المؤطّرة له، حيث واجه أسئلة التأخر والتقدّم، التحديث والتقليد، الاستمرارية والقطيعة، العقلانية واللاعقلانية .. إلخ. ثم تساءل "هل وجدت الإشكالات التي قمنا بتوضيح طبيعتها في مؤلفاتنا طريقها إلى الحل، أم فقدت راهنيتها اليوم في ظل ظروفنا العامة"؟ وتابع محاورة بعض نتائج مشروعه، متسائلاً ماذا تعني الدولة الوطنية اليوم أمام انتعاش الحس الطائفي والمذهبي، وعودة القبيلة إلى مجتمعاتنا؟ وماذا تعني الدولة القومية أمام تصاعد المد الإثني، السابق على مسيرة الاندماج الاجتماعي ونشأة الدولة الوطنية؟ ليخاطب نفسه بعد ذلك، قائلاً، بكثير من الأسى، "كل أطروحاتك عن التاريخية والتأخر التاريخي والإصلاح والقطيعة والتقدم ترتكز على مفهوم الدولة الوطنية، ونحن نراها اليوم إما تتفكّك، أو تسلب من كل فاعلية ونفوذ (...) الانتماء اليوم هو للعرق للمذهب للقبيلة لا الدولة". ويبدو أن سؤال العروي في ظاهره مُوَجَّه إليه، لكنه في العمق موجه إلى التاريخ والنتائج التي آلت إليها أوضاعنا.
تخللت المحاضرة نغمة حزينة على مآلات الراهن العربي، حيث تتطوّر الأمور من سيئ إلى أسوأ. وظلت مفارقات الوعي والتاريخ مشخصةً بعناية في كثير من أعماله وثنايا خطابه. وقد حرص على مزيدٍ من مواجهة بعض خلاصات أعماله، موضحاً ذلك من خلال أمثلة محدّدة، ومشيراً إلى أنه كان يحاول دائماً إبراز أهمية ابن خلدون، بحكم أنه أَوْلَى عناية بالغة لعملية التدوين، أي نقْل ثقافةٍ شفويةٍ إلى ثقافةٍ مكتوبةٍ، فَشَيَّدَ علم العمران، معتبراً أن تأخرنا التاريخي المتواصل اليوم يعود إلى أننا وقفنا عند هذا الحد، ولم ننتبه إلى ما حصل في أوروبا ابتداءً من القرن الخامس عشر. ثم تساءل: ماذا يعني الواقع اليوم؟ هل تعلمنا من المكاسب المنجزة في التاريخ الغربي منذ القرن الخامس عشر؟ وإذا كنا اليوم نقبل أن الواقع هو المحسوس، أي ما يُرى ويلمس وما يسمع، فإننا لا نتوفر إلى حدود هذه اللحظة على ما يسعفنا بالتمييز بين المعقول والمتوهم.
انتقل المحاضر بعد ذلك إلى الحديث عن المحور الثاني في محاضرته، مقترحاً موضوعاتٍ 
صاغها على شكل أسئلة، معتبراً أنها تصلح مجالا للبحث في الكرسي الذي يدشّنه اليوم. ما هو بديل الدولة الوطنية اليوم؟ ما العمل أمام الأمية الحَرْفِيَّة والأمية الرقمية في مجتمعاتنا؟ هل الواقع الافتراضي الذي يملأ اليوم حيزاً كبيراً في عالمنا هو نتاج للعلم التجريبي، أم أنه من أعمال سحرة موسى؟
انتقل العروي بعد ذلك إلى ربط الأسئلة التي قدَّمها على سبيل التمثيل بالإشارة إلى الأوضاع السيئة لأنظمتنا في التربية والثقافة، موضحاً أنه كان وما زال يواصل الدعوة إلى الإصلاح في المجالات المذكورة، مبرزاً ضرورة أن يوفّر الكرسي الجديد في الكلية المراجع والوثائق المساعدة في عمليات تحديث وتقييم الآراء والنظريات التي وظفها في أعماله، قصد تعيين حدودها. موضحا أن المجتمعات العربية تواجه اليوم تحدّياتٍ مختلفة عن التحدّيات التي كنا نواجهها في النصف الثاني من القرن الماضي، الأمر الذي يقتضي تركيب التصوّرات المناسبة لها، من أجل فهمها بمناهج وأدوات معرفية مُسْتَمَدَّة من حقول معرفية متعدّدة، بهدف بناء إحاطة جديدة بمستجداتها. وقد ختم محاضرته مقترحاً أن يكون الكرسي الذي يحمل اسمه مجالاً للبحث في مسألة الترجمة والتأويل.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".