هل هناك التباس بين الضحية والجلاد؟

هل هناك التباس بين الضحية والجلاد؟

12 يناير 2020
+ الخط -
طرحت الثورات العربية أسئلة لم تكن لتطرح قبلها. وبصرف النظر عن مآلاتها، زلزلت الثقافة العربية السائدة، لكن مستوى النقاش بشأن قضايا كثيرة يعيد الجميع إلى الطريقة المتخشبة في النقاش التي سادت قبل الثورات العربية، وما زلنا نعالج القضايا بالطريقة نفسها. وهو ما يجعل المرء واثقاً من أن الثورات العربية كانت فعلا سياسيا عظيما على الأرض من الجموع المحتجة والثائرة، لكنها لم تملك بعد الخطاب الذي يعبر عنها، ولا عن قيمها، حتى بين مؤيديها. وتدعو هذه الحالة إلى التأمل مرة أخرى في انفصام الواقع العربي على الخطاب السائد. كان الخطاب الرسمي، قبل الثورات، يصور بلدان الخراب العربية وكأنها الجنة، وكان مفصولاً عن الواقع. وما زال يحاول العمل في الطريقة نفسها، على الرغم من عبثيته وانكشافه النهائي. مع الثورات العربية حدث العكس، جاءت الثورات فعلا سياسيا عظيما، هزَّ المنطقة، وأطاح رؤساء، وأظهر قوة الناس المظلومة، عندما تطالب بحقوقها وحريتها، لكن هذا الحدث العظيم لم يملك لا خطابه السياسي الموازي للحدث، ولا حتى خطابه القيمي بالحرية والعدالة. 
ليس ذلك على مستوى الخطاب العام فحسب، بل يُرى أيضا في كثير من تفاصيل النقاشات التي تدور، ليس بين مؤيدي الثورات العربية ومنكريها فحسب، بل أحيانا بين مؤيدي الثورات العربية في ما بينهم أيضاً.
النقاش بين مؤيدي الثورات ومؤيدي الأنظمة، الذين يقوم خطابهم على أن الأنظمة في موقع 
الضحية نتيجة مؤامرة خارجية، أميركية، إسرائيلية، غربية... إلخ. ولكن المدافع عن الأنظمة لا يريد أن يرى الأنظمة التي تدّعي مواجهة المؤامرة تخوض الحرب ضد شعبها بالقتل والتنكيل به وهدم منازله، ولا تخوض حربها ضد الدول المتآمرة. طبعاً النقاش مع مؤيدي الأنظمة نافل، ولا معنى له. ليس بمعنى عدم القدرة على الوصول إلى نتائج في النقاش فحسب، وليس لأن لدى هؤلاء مصالح مع الأنظمة. هناك كثيرون ممن يحملون هذه القناعة، لا مصالح لهم مع الأنظمة، حتى أن كثيرين منهم قد تضرّروا منها. بل لأن النقاش ينطلق من موقعين مختلفين، ومن مفهومين للقيم الناظمة، بالنظر إلى الإنسان ومكانته وموقعه بالنسبة لسياسة البلد. إذا كنت ترى أن كل القيم تدور حول الإنسان، فإنك لن تكون مع قتل الشعب بهذه الوحشية، حتى لو كان هناك فعلاً مؤامرة خارجية، فمؤامراتٌ كهذه في جميع الحالات لا تتم مواجهتها بتخريب الأوطان بشكلٍ يفوق التصور. وأعتقد أنه لو تم تكليف الدول التي يُفترض أنها تتآمر على البلد بتخريبه، لما قامت بتخريبها بالمستوى والعمق الذي خرّبته الأنظمة المستبدّة التي دمرت بلادها من أجل التمسّك في السلطة. أما عندما لا ترى أن القيم تدور حول الإنسان، إنما حول القضايا، وليس الإنسان سوى وقود لمعركة هذه القضايا، فعند ذلك يمكن أن تقبل أن يذبح النظام شعبه بذريعة أنه يتصدّى لأميركا ولإسرائيل، في وقتٍ لا يقوم فيه بأي فعل ضد هؤلاء، ولكنه لا يتورّع عن استخدام كل ترسانته العسكرية في قتل شعبه، وذلك كله من أجل التصدّي للمؤامرة الأميركية ـ الإسرائيلية، فالقضايا الكبرى تحتاج تضحية، فأن يقتل الملايين من أجل القضايا الكبرى هذه مفخرة، فحتى لو قتل كل الشعب، فهذا ليس مهماً، ذلك كله فداء للمواجهة الكبرى مع الولايات المتحدة وإسرائيل، الأهم أن يبقى النظام الممانع، وخصوصاً رأسه.
لا فائدة من النقاش مع معادي الثورات العربية أو مؤيدي الأنظمة، فهؤلاء في عالم لا يمكن إخراجهم منه، لأنهم يعتقدون أنهم يخوضون حروب الأمة في مواجهة أعدائها، ومن يخوض الحرب يستخدم الأسلحة لا الكلام، لذلك هم يستبيحون دم الجميع ويحرّضون على المختلفين معهم بالقتل، لأنهم يعتبرونهم خونة.
هناك نقاش أكثر إيلاماً بين مؤيدي الثورات، عندما يختلفون مع شخصٍ آخر صاحب قضية 
عادلة، يسقطون موقفهم من الشخص على القضية، وهذا تكرّر في نقاشاتٍ عديدة، خصوصا في الموضوع السوري. أصبح من العادي أن تجد سورياً مؤيداً للثورة، عندما يصرح قيادي فلسطيني أو شخصية فلسطينية تصريحاً مؤيداً للنظام السوري، سرعان ما يتصدّى سوري لمثل هذا التصريح، ليس بإدانة المعني فحسب، بل وبالمسّ بعدالة القضية الفلسطينية، على اعتبار وقوف هذه الشخصية أو تلك مع النظام السوري يُفقد الفلسطينيين موقعهم ضحية، ويجعل عدالة قضيتهم موضع شك. والحال نفسه، عندما يدافع أحدهم عن حق الأكراد في حل عادل، هناك من الفلسطينيين والسوريين من يقول إن هؤلاء لا يستحقون حلا عادلا، لأنهم يقيمون علاقات مع إسرائيل. وعندما يزور معارض سوري أحمق إسرائيل، يهاجم الفلسطينيون الثورة السورية، بوصف هذا الشخص تمثيلا لهذه الثورة، وللسوريين الذين ثاروا على النظام المستبد في دمشق.
هذا النوع من الأحكام أحكام ذاتية وانفعالية لا تتناسب مع قيّم الحرية والعدالة التي يدافع عنها من يقف مع الثورات العربية، بوصفها حق المظلومين والضحايا في الدفاع عن حقوقهم في مواجهة الظلم الذي تعرّضوا إليه. لذلك أحكام القيم التي تعنى بالضحايا موضوعية، وليست انفعاليةً، رداً على موقف هذا الشخص أو حماقة ذلك. الضحايا هم من يمثلون القضايا، السورية والفلسطينية والكردية، وليس الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم قائمين على هذه القضايا. بمعنى إن أي قيادي فلسطيني، عندما يقف مع النظام، يمثل نفسه، ولا يمثل الفلسطينيين، ضحايا الاحتلال، أصحاب القضايا العادلة. ولا يؤثر هذا الموقف المنحاز على عدالة القضية الفلسطينية موضوعياً. كذلك الحال في القضيتين، السورية والكردية، أن يتعاون كردي مع إسرائيل. هذا لا ينتقص من عدالة القضية الكردية، وأن يزورها معارض سوري أحمق لا يغير من عدالة القضية السورية في مواجهة استبداد وحشي.
أي مدافع عن القيّم عندما يتخذ موقفه يجب أن تكون عينه على البشر وموقعهم في الصراع. ويكون الوقوف إلى جانب القضايا العادلة، وليس إلى جانب الأشخاص، إلى جانب الضحايا في مواجهة الجلاد، أياً كانت جنسية هذا الجلاد.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.