روسيا.. الاستثمار في الأزمات

روسيا.. الاستثمار في الأزمات

12 يناير 2020
+ الخط -
أكثر من ستة عشر عاماً مضى على آخر حرب كبيرة وقعت في الخليج، عندما شنّت الولايات المتحدة هجوم "الصدمة والرعب" على العراق، وأسقطت حكم الرئيس صدّام حسين. ومنذ ذلك التاريخ، وُضِعت أسس جديدة لتعاملات المنطقة، السياسية والعسكرية، بعد أن فقدت عاملاً ثابتاً من عواملها وهو صدّام حسين، وأصبح العراق ملعباً حرّاً لإيران، وقد خلا لها الجو وطابت لها الرياح، وزاد في تكريس هذه الحالة التراخي الأميركي في عهد الرئيس أوباما، وغض الطرف عن التجاوزات الإيرانية، ما فتح مجالاً واسعاً لها للتحرّك ومد النفوذ، وقد ساعدها لاحقاً وأمن تغلغلها في العراق ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فيما انسحبت الولايات المتحدة شيئاً فشيئاً، تاركةً وراءها مجموعة متناثرة من القواعد، ما زالت حائرة هل تبقيها أم تغادر، وتكتفي بالتفرّج والقيادة من الخلف. أعطت هذه الوضعية حافزاً لإيران، لتظهر مزيداً من التحدّي، فشاهدنا قبل أشهر حادثة إسقاط طائرة أميركية من دون طيار مرّت مرور الكرام بعد توتر قصير.
كان الطرفان، الأميركي والإيراني، يشدّدان، بعد كل توتر، على أنهما لا يريدان الحرب، فاستمرت فترات السلام المتوتر تخيم على المنطقة منذ نهاية حرب إسقاط صدّام، ولم تشذّ الحادثة التي وقعت قبل أيام عن الاتفاق بعدم دخول حرب شاملة، على الرغم من الضربة الموجعة التي تلقتها إيران بقتل أحد جنرالاتها المتجوّلين في المنطقة، قاسم سليماني، متعهد نظام إيران الحربي، وصاحب النشاط الملفت للنظر في أماكن التوتر والغليان، كسورية والعراق واليمن، هذا النشاط جعله هدفاً مغرياً للطائرات الأميركية الذكية التي تسير من دون طيار، فتم استهدافه مع مجموعة من قادة "الحشد الشعبي". أظهرت إيران انضباطاً عملانياً بعدم الانجرار إلى الحرب، وذلك بهجومها الصاروخي على قاعدة "عين الأسد" بالطريقة المخيّبة لآمال كثيرين، فالهجمة لم تتسبب بإصابة أي أميركي، بحسب ما صرّح الرئيس ترامب، واكتفى الأخير بخطابٍ قصيرٍ مدّته تسع دقائق، كانت أشبه ببيان انتهاء الأزمة، لإعادة كل شيء إلى ما كان عليه، قبل مقتل سليماني، في تكرار لسيناريو يبدو مكتوباً بدقة.
الخيار الأميركي الذي أعلنه ترامب في خطابه هو العقوبات، التقليدي، تمسّك به وكأنه الحل الوحيد والنهائي لترويض إيران، وهو الخيار المعتمد منذ بدأت موجات التوتر بين البلدين. وهذا الموقف مرشّح ليبقى سائداً إلى فترة غير معروفة، خصوصا وأن الرئيس الأميركي سيغطس حتى أذنيه بمشاغل الانتخابات المقبلة، أو بصياغة موقفه لمواجهة إجراءات مجلس الشيوخ بعد قرار مجلس النواب بعزله.
التغير الملفت في المنطقة هو هبوط طائرة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في مطار دمشق لأول مرة منذ بداية الحرب السورية، ساعات قليلة قبل انطلاق الصواريخ الإيرانية نحو أماكن خالية في قاعدة عين الأسد العسكرية، وكأن الأحداث متزامنةٌ لتعطي الرئيس الأميركي طمأنة مضاعفة بأن الهجمات الإيرانية ستتوقف عند هذا الحد، بضمانة بوتين، الحاضر بشخصه، على مقربةٍ من ميدان الأحداث، والمتحرّك في الأجواء نفسها التي تحركت فيها الصواريخ الإيرانية.
تعطي حالة التوتر الحالية لروسيا أفضلية ونقاطا إضافية ظهرت بوضوح في الفترة الماضية، ووجود رئيس أميركي يعاني من مشكلات داخلية في حكمه قد يزيد من اكتساب روسيا النقاط، وظهور بوتين المفاجئ في المنطقة وسط الأزمة يبدو محاولة لتكريس مشهد جديد، وقد كانت روسيا في أسوأ وضعيةٍ لها عند نهاية حرب إسقاط صدّام حسين، أما اليوم فهي لا توفر جهداً في جميع حوادث التصادم الأميركي الإيراني لتحصيل مزيد من المكتسبات، وصولاً إلى لحظة وجود بوتين على تخوم الأزمة، وعلى مقربةٍ من تساقط الصواريخ، لتوقيع اتفاق مرور الغاز، وهو اتفاقٌ في غاية الأهمية، مع تركيا الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) والتي تبدو صديقة لروسيا، وعلى أميركا أن تبحث عن نفسها في رئاسةٍ مغايرةٍ لرئاسة ترامب.