نساؤنا ومسكوت عنه في مجتمعات متقدّمة

نساؤنا ومسكوت عنه في مجتمعات متقدّمة

11 يناير 2020
+ الخط -
في حوار معها نشر في صحيفة أوبزيرفر البريطانية، تحكي هيلين شارمان، وهي أول بريطانية تسافر في رحلة فضائية إلى محطة الفضاء السوفيتية "مير"، في شهر مايو/ أيار عام 1991، تتحدث عن كيف يتم، حتى الآن، تجاهل أنها أول شخصٍ يحمل جنسية بريطانية يسافر إلى الفضاء، وحين يتم ذكر رحلتها، فإنها تُذكَر أول امرأة بريطانية تفعل ذلك، بينما احتفت بريطانيا كلها برائد الفضاء البريطاني، تيم بيك، الذي زار الفضاء في عام 2015 بوصف زيارته حدثا استثنائيا، "كونه أول بريطاني يفعل ذلك". وتتابع شارمان التي تعمل حاليا في جامعة إمبريال كولدج، أنها تتذكر أول مواجهةٍ بينها وبين الجندر، وذلك عندما كانت في المدرسة الثانوية، حين قال لها مدرّسها إنها إن أرادت دراسة الفيزياء والكيمياء لن تجد امرأة غيرها في هذا القسم! كما تتذكّر، حين سمعت في الإذاعة البريطانية عن فرصة العمل في مجال الفضاء، كانت في سيارةٍ في شوارع لندن، أنها بقيت حتى عودتها إلى البيت، وهي تفكر أنهم حتما سيرفضون طلبها، فهي امرأة، وهذا عمل خاص بالرجال، لكنها انتبهت أنها تفكر بذلك من دون حتى أن تتقدّم إلى الوظيفة، فقرّرت أن تذهب في اليوم التالي لفعل ذلك، ذهبت وتقدّمت بطلب وظيفة رائدة فضاء وتم قبولها، لكنها بقيت تُعامل كامرأة حتى في ذاكرة البريطانيين عن رواد فضائهم، الذاكرة التي تميّز الحدث بناء على الجندر، وتنحاز تلقائيا للرجل، وتضعه في المقدّمة، حتى في حدث تاريخي واستثنائي كالذهاب إلى الفضاء، حيث كانت شارمان أول من فعل ذلك في بريطانيا، قبل نحو خمسة وعشرين عاما من رحلة تيم بيك.
يحدث ذلك التمييز في بريطانيا، الدولة العظمى التي تتبنّى قوانين مدنية تكفل عدم التمييز بناء على العرق والجنس واللون والعقيدة. يحدث ذلك في زمننا الحالي، إذ أن شارمن مواليد عام 1963، أي أنها لمّا كانت في الثانوية كانت في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وحين التحقت في العمل رائدة فضاء كانت في تسعينيات القرن، حيث كان العالم المتقدّم قد قطع شوطا طويلا ومذهلا في صياغة العقود الاجتماعية والقوانين التي تكفل حقوق الإنسان ضد العنصرية والتمييز. ومع ذلك، يبدو الإرث الذكوري في المجتمع البريطاني عميقا جدا إلى حد أن دراسة علوم الفيزياء والكيمياء ستكون مدعاة للدهشة، حين تقرّر أنثى ما أن تفعل ذلك، كما أنه يطاول فئاتٍ متعدّدة من المجتمع، فشارمن رائدة فضاء، أي أنها دخلت مجالا مقتصرا على نخبةٍ علميةٍ قليلةٍ جدا ليس فقط في بريطانيا، بل في العالم بأسره، وعلى من يدخل مجالا كهذا أن يتمتع بقوة شخصية وإرادة وثبات تجعل من حضوره الاجتماعي قويا ومتوهجا، ومحميا ضد كل أمراض المجتمع. ومع ذلك لم تستطع هيلين شارمن، أول حامل جنسية بريطانية يزور الفضاء، التخلص من الانحياز الذكوري المجتمعي، ولا من المظلومية الأنثوية التي تصبح أكثر حساسيةً تجاه كل ما يتعلق بالجندر.
بالنظر إلى ما سبق، هل من العدل مطالبة المرأة العربية بالتخلص من مظلوميتها الأنثوية، أو من حساسيتها تجاه مواضيع الجندرة، وهي تعيش في ظل مجتمعات مغرقة في ذكوريتها؟ ذكورية تسري سواء على صعيد العادات والتقاليد المجتمعية، أو على صعيد القوانين والدساتير التي تميّز الذكر عن المرأة، وتضعه في مرتبةٍ متقدّمة عنها، سواء في العلاقة مع مسائل كالزواج والأولاد والنسب والطلاق، أو في مسائل الإرث والملكية، وكلها تفاصيل يُفترض أنها تنظّم علاقة الفرد بالمجتمع، ومستمدة من القوانين الشرعية الدينية التي تميز الرجل بوضوح ومن دون أدنى مواربة. تمييز تدعمه، أساسا، أنظمة استبدادية أمنية بطرياركية متحالفة مع مؤسساتٍ دينيةٍ مغالية في ذكوريتها وتعسّفها ضد المرأة، متكئة، ليس فقط على النص الديني الذكوري، بل على فقه فقهاء لم يخرج أحدهم يوما عن طاعة الحاكم، الحاكم، وبطانته التي تدرك أن أي تغييرٍ في المجتمع لصالح المرأة، ويخفّف من سلطة الذكر، هو بالضرورة تغيير في أساس المنظومة الذهنية التي تحكم مجتمعاتنا، أو بالأحرى نسفها بالكامل.
إنّ بقاء هذه المنظومة رهنٌ ببقاء تخلف المجتمع وديمومة هذا التخلف، الذي، ما أن تظهر بوادر لتخلخله، حتى يزداد فقهاء الظلام شراسةً وعنفا دفاعا عنه، وهو ما ظهر جليا في الثورات المضادّة للربيع العربي، والتي خطط لها وقادها وموّلها مافيتا السياسة والدين معا، اللتان لا تتشاركان وتتحالفان إلا على الخراب والتخلف، وإلا على ما يكفل مصالحهما الأبدية معا ضد المجتمع بشكل عام، وضد المرأة بوصفها الحامل الأول لتطور أي مجتمع، بشكل خاص.

دلالات

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.