زَعابِل ما بين النهرين

زَعابِل ما بين النهرين

11 يناير 2020
+ الخط -
الزَعْبَلُ هو الصبيُّ الذي لم يَنجَعْ فيه الغذاءُ فعظُمَ بطنُه ودَقَّ عُنقُه، وزَعَبَ البعيرُ بحملهِ أي مرّ مُثقلاً أو تدافعَ مع غيره، وتُطلق أيضاً كتسمية للحرباء والأفعى. كلمة عتيقة شبه مهجورة، يكادُ يأكلها العثُّ في صفحات المعاجم. لم أجد أنسب منها لوصف حالنا في منطقةٍ كانت في ما مضى من أزمان مهد الحضارات والديانات والثقافات والأبجديّات. ما أوحى بالبحث عن كلمة كهذه كان مشهداً سوريالياً غرائبياً رأيناه عبر شاشات التلفاز في البرلمان العراقي.
مجموعة من الشتّامين النوّاحين الذين يمكن أن يمثّلوا أي شيء في الدنيا، ما عدا أن يمثّلوا شعب العراق العظيم، الشعب الذي من بين ضفّتي دجلته وفراته ظهرت أولى حضارات البشرية وأعرقها. من هناك، حيث كان قانون حمّورابي أوّل قانون مكتوب في التاريخ البشري مُكتشفٍ حتى الآن، ظهرت أصواتٌ نشازٌ، تطالب بخروج المحتل الأميركي، وفي الهتاف نفسه، تصيح بالمجد والخلود للإيراني! كأنّ الحياء لم يعُد له وجود في أذهان وضمائر أشباه رجالٍ أتت بهم الدبابة الأميركية لحكم العراق، ليطالبوا بإحلال الإيراني مكانه، وإلحاق البلد العظيم تابعا يدور في فلكه!
الانقسامُ واضح في المشهد العراقي، وعلى الرغم من فساد الطبقة السياسية الحاكمة كلّها بجميع مكوناتها وتقسيماتها، إلّا أنّ الكتلتين، العربية السنية والكردية، المتفارقتين قومياً قد اتّحدتا في 
اتخاذ موقفٍ غاية في الحذر من موقف الكتلة الشيعيّة التابعة عقدياً ومصلحياً للإيراني. ثمّة إحساسٌ عميقٌ بالمصير المأساوي الذي تمشي وراءه البلاد نتيجة استئثار هذه الفئة بتحديد مصير البلاد. ثمّة إدراكٌ واضحٌ للفرق بين التعاون للحصول على الغنائم والمكاسب من كعكة الفساد والارتهان الكلّي للمشروع الإيراني. يجد الكرد والعرب السنّة أنفسهم محشورين في الزاوية، وتُجبرهم ظروف المرحلة على الاحتماء بمحتّل يمكن أن يخرج في البلاد يوماً ما باتفاقيات ومعاهدات، من محتلّ آخر لن يخرج أبداً إلّا بعد حروبٍ طاحنةٍ تحرق الأخضر واليابس.
المأساة التي حلّت بالعراق نتيجة إسقاط الدولة العراقية وتفكيك مؤسساتها الوطنية السيادية وخاصّة الجيش العراقي مستمرّة. لقد بُني الدستور العراقي بموجب رؤية المحتل الأميركي الذي قسّم العراق إلى قومية كردية وطائفتين دينيتين، سنية وشيعية، من دون الاعتراف بأنهما من قوميةٍ عربيةٍ متجذّرة منذ مئات إن لم نقل آلاف السنين. لقد أراد بول بريمر تكريس هذا التقسيم، ليدوم مئات السنين كما هو حال لبنان، ما سيشكل جدار صدّ دائم أمام إعادة تشكيل الهويّة الوطنية العراقية. وهنا وجه آخر للمفارقة، حيث يجد عراقيون كثيرون أنفسهم بحاجة للمحتلّ الذي أوصلهم إلى هذه الحالة، خوفاً من تردّي أوضاعهم إلى ما هو أسوأ منا.
نتيجة تفكك بنية الدولة العراقية، تفكك المجتمع العراقي أيضاً، بات هاجس الأكراد تشكيلَ كيان الإقليم الكردي وتقويته وتعزيز إمكانيات انفصاله، لبناء الدولة القومية، الحلم بأي شكل كان، ولو على حساب الدولة العراقية، بينما صار هاجس العرب السنة الاحتماء من هجمات التصفية والإقصاء الممنهجة التي شنّتها الفئة السياسية التي استلمت زمام السلطة، والتي تمثّلت بالتطبيق الانتقائي لقانون اجتثاث "البعث" وقانون مكافحة الإرهاب. لقد تم تطبيق القانونين المذكورين على أبناء هذه الفئة من العراقيين من دون غيرهم. بينما كان المكوّن الشيعي يحظى بجميع الامتيازات والاستثناءات، بما فيها امتياز إنشاء المليشيات العسكرية المسلّحة والجيوش الخاصّة.
كانت المعارضة العراقية التي نصّبتها قوات الاحتلال الأميركي في سدّة الحكم مرتبطة أساساً، ومنذ أعوام، بنظام حكم الملالي في إيران، حتى أنّ بعض قادتها حاربوا مع الجيش الإيراني ضدّ الجيش العراقي في حرب الأعوام 1980 - 1988. كان انتماؤهم وولاؤهم لإيران لا للعراق. لاستكمال حلقة التبعية والولاء، كان لا بدّ من إفساد جميع مؤسسات الدولة والحكم، لضمان عدم وجود أي تعارض بين المصالح الشخصية لهؤلاء الحكّام الجدد والمصالح القومية لمشغّليهم في إيران. لقد بات نهب المال العام العراقي سياسةً ممنهجةً ومستقرّة.
موّل نظام الحكم في إيران أدوات التوسع المحليّة التي شكلها في البلدان العربية من اليمن إلى 
البحرين إلى سورية ولبنان من أموال نفط العراق المنهوب، فقد قدّرت دراساتٌ أنّ كميّة النفط المهرّب من حقول البصرة وحدها بإشراف إيراني يفوق الثلاثمائة ألف برميل يومياً، وأنّ ملايين الدولارات تدخل إلى جيوب قادة المليشيات التابعة لإيران. هذا كلّه جعل من البلد رهينةً بيد إيران عن طريق قوة المليشيات المسلّحة التي تغلغلت في جميع أجهزة الدولة، بما فيها الجيش والمخابرات والشرطة وجهاز مكافحة الإرهاب.
بهذا نستطيع أن نفهم أسباب نواح زعماء المليشيات في العراق، وأمين عام حزب الله، حسن نصر الله، في لبنان، والحوثيين في اليمن، على مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، فهو لم يكن رجلاً عادياً بالنسبة لهم. كان مهندس عمليات السيطرة على باقي القوى والمكونات العراقية، والغطاء الشرعي لعمليات النهب والفساد تحت غطاء المقاومة والممانعة، وهو المموّل لأتباعه في هذه البلدان. أمّا بالنسبة للإيرانيين، فقد كان الممثل السامي لنظام حكم الملالي في العراق واليمن وسورية ولبنان، وهو الذي بات رمزاً لمشروع التوسع الإمبراطوري الفارسي.
يتساءل مواطن لبناني عن سبب عدم اعتبار نصر الله اغتيال رفيق الحريري، العربي اللبناني، الذي زعمَ محورُ المقاومة والممانعة أنّ إسرائيل كانت وراءه، اعتداءً على لبنان، مثلما اعتبر اغتيالَ قاسم سليماني الإيراني الجنسية اعتداءً على الشعوب والأمّة والدين، ولماذا علينا الردّ وشنّ الحروب على أميركا في الحالة الثانية، بينما صمتنا عن إسرائيل في الحالة الأولى؟ لماذا علينا أن ننتحر عندما اغتالت أميركا ضابطاً إيرانياً في العراق، بينما لم تهتزّ لنا شعرة عندما اغتالت إسرائيل رئيس وزراء سابقا في بلدنا؟
لقد أعمت غشاوة الحقد الطائفي والغباء السياسي عيون هؤلاء، لم يدركوا أنّهم يقفون على الجانب الخطأ في الجغرافيا والتاريخ، وحتى السياسة. إيران الآن مفلسة ومنهكة، شعبها يرزح تحت وطأة سوء إدارة هذا النظام لموارد الدولة، أمّا العقوبات والحصار الأميركيان، فلم يفعلا سوى أن شدّدا من مظاهر هذه الأزمة. تلك الاحتجاجات المتصاعدة كل فترة وأخرى لن تتوقّف، ستعود لتتفجّر هنا وهناك، ما دامت أسبابها موجودة بل وتزيد.
لأميركا مصالح استراتيجية في العراق، ولن تتخلّى عنها كرمى لعيون إيران أو غيرها. وكانت 
للمناورات الروسية الصينية الإيرانية قبل أيام في مياه المحيط الهندي على مدخل الخليج العربي أهميّة كبرى في نظر الإدارة الأميركية. كذلك لعبت استفزازات إيران المتكررة دوراً مهما في اتحاذ قرار التصعيد الأميركي، بعد أن بدا للجميع، وللإيرانيين خصوصا أنهم يستطيعون اللعب كثيراً خلال مرحلة السنة الأخيرة من الولاية الأولى للرئيس الأميركي ترامب، والتي تسمّى مرحلة البطّة العرجاء، حيث تتوقف الإدارات عادة عن اتخاذ مواقف حاسمة، وعن خوض الحروب، بسبب الخشية من التأثير السلبي على نتائج المرشحين من الحزب الحاكم.
ولكن ما غاب عن أذهان الكثيرين وحساباتهم أنّ الرئيس ترامب، إضافة إلى دوافعه الخاصّة بالانتخابات، فإنه غير تقليدي في معالجة قضايا بهذه الحساسية، يمكن أن تظهره ضعيفاً أمام جمهوره من الناخبين. لم يقرأ قادة إيران جيداً نرجسيّة ترامب العالية، وحساسيته المفرطة تجاه مقارنته بضعف سلفه الرئيس أوباما ووزيرة الخارجية والمرشحة الديمقراطية للرئاسة، هيلاري كلينتون. لقد اتّخذ ترامب زمام المبادرة، بعد أن تريّث طويلاً، على الرغم من إسقاط إيران طائرة الاستطلاع الأميركية في يونيو/ حزيران الماضي، وعلى الرغم من الهجوم على منشأتين لشركة أرامكو في السعودية في سبتمبر/ أيلول الماضي، والذي ثبت أنّ إيران تقف وراءه. لم تعد الحسابات الآن مجرّد مصالح أمن قومي، بل تعدّت لتصبح مصالح انتخابيّة وحساسيّات شخصيّة خاصّة برجلٍ يحمل عقلية المصارع، لا عقليّة البروفيسور.
ستمرّ الأيام سريعاً، وسنرى أين تصل الأمور بين الأميركيين والإيرانيين، لكننا سنبقى حتى ذلك التاريخ نرى زعابل منتفخة تُطلق تصريحات جوفاء، من دون أن تدري أنّها تجرّ البلاد وأهلها ليكونوا وقوداً لمعركة محسومة سلفاً.
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود