الأميركيون ليسوا ليمونا

الأميركيون ليسوا ليمونا

11 يناير 2020
+ الخط -
نقرأ في وثيقة مسرّبة نشرها موقع ويكيليكس محضر اللقاء الشهير بين الرئيس العراقي الأسبق، صدّام حسين، والسفيرة الأميركية في بغداد، إبريل غلاسبي، قبل غزو الكويت عام 1990. يُذكّر صدام الأميركيين بأهمية دوره، فيقول إن بلاده دفعت مائة ألف قتيل في الحرب مع إيران، ويردف: "الولايات المتحدة تعرف أن العراق، وليس الحكومة الأميركية، هو من حمى بحزم أصدقاءها في أثناء الحرب، وذلك مفهوم، إذ إن الرأي العام الأميركي، ومن دون أن نقول شيئاً عن الجغرافيا، كان سيجعل من المستحيل على الأميركيين قبول سقوط عشرة آلاف قتيل في معركة واحدة، بينما أمكن للعراق قبول ذلك". 
هكذا هو الأمر بصراحة متناهية. يمكننا أن نقدم أرواحنا الرخيصة بديلاً عن أرواحكم الغالية. وبخلاف الشائعات عن الضوء الأخضر الأميركي الممنوح لغزو الكويت، كانت المحادثة سجالية، حيث يشكو صدّام من الانحياز الأميركي للكويت والإمارات في خلافاته النفطية معهما، ويصل إلى القول بصراحة تامة إن "العراق يعلم أن في استطاعة الولايات المتحدة إرسال طائرات وصواريخ وإيذاء العراق بشدة"، لكنه على الرغم من ذلك يقول إن العراق إذا وصل إلى الشعور بالإذلال والإهانة "سوف يتجاهل المنطق". تحدّث صدّام مطولا عن كبرياء العراقيين الذين يؤمنون بـ"الحرية أو الموت".
مرة أخرى، أرواح رخيصة في مقابل قيمة غامضة هي الكبرياء الوطني. عبر عقود، تتكرّر الفكرة نفسها قولاً وفعلاً عن أرواحنا الرخيصة، في مقابل أرواح ثمينة تُسير لواحد منها فقط الجيوش التي تحرص على أرواح جنودها بدورها. جديد محطاتها ما شهدناه في التوتر الأميركي الإيراني. أسقطت إيران، في يونيو/ حزيران الماضي، طائرة أميركية مُسيرة، فلم يعبأ الرئيس ترامب، قائلاً إن "الخط الأحمر هو إيذاء الأميركيين". لهذا بمجرد مقتل مدني أميركي في قصف مليشيا عراقية مرتبطة بطهران، تزلزلت الأرض، قتل عشرات من أفراد المليشيا، ولاحقا تم اغتيال الجنرال في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، مع آخرين لم يعبأ أحد بعدّهم. ثم جاء الرد الإيراني بأشد حرصٍ ممكنٍ على ألا يسقط قتيل أميركي واحد، أبلغوا الحكومة العراقية بمكان القصف وموقعه مسبقاً، ثم لم تُصب الصواريخ أصلاً أية منشآت للجنود، بل أراضا فارغة أو مهابط طائرات. لاحقاً قال قائد القوات الجوية في الحرس الثوري الإيراني إن الهجمات لم تكن تستهدف قتل أميركيين.
على الجانب المقابل، شهدت جنازة سلماني تدافعاً أدى إلى مقتل 56 شخصاً، مروا كخبر عابر. في بلد غربي كانت هذه ستصبح كارثة قومية، وسيتم حساب المسؤولين المباشرين جنائياً، وغير المباشرين سياسياً، وسيغرقون في دراساتٍ علميةٍ حول أسباب خلل "إدارة الحشود".
يفخر تراثنا الشرقي التليد بسحق فردية الإنسان في مقابل الجماعة، وببذل الأرواح أول خيار سهل لأجل القيم المجردة الغامضة، وبمد الخط نصل إلى الموت إهمالا وعبثاً. أينما وليت وجهك في بلادنا ترى ملايين الجثث. حروب عمر البشير في جنوب السودان ودارفور، قمع "الانتفاضة الشعبانية" في العراق بعد حرب الخليج الثانية، العشرية السوداء في الجزائر، ونهاية بمقتل نحو 400 ألف شخص في سورية يراه أسديون ثمناً بخساً لأجل "الممانعة". وخطابياً، تتجذّر هذه الثقافة بالسلطة ومعارضتها، شهدنا في اعتصام ميدان رابعة العدوية في القاهرة قياديين من "الإخوان المسلمين"، يكررون استعدادهم لدفع "خمسين ألف شهيد" لأجل الشرعية. وفي إحدى خطبه، قال الرئيس الراحل محمد مرسي: "أنا رئيس بعد ثورة، والثورات بيحصل فيها كده.. يعني ممكن نضحي بشوية عشان الوطن كله يمشي". وفيما يبدو كانت هذه محاولة منه للرد على اتهامات بأنه "رئيسٌ ضعيف"، فقرّر الدفاع خطابياً بما عهده، وهو أن الرئيس القوي هو من يمكنه سحق معارضيه.
ومؤسفٌ هنا أن هذه الثقافة تمتد إلى الشعوب المقهورة نفسها، فنجد ترحّماً على صدّام حسين ومعمر القذافي، وكل من لا يخشى في القتل لومة لائم. ويتكرّر الحلم بنموذج "المستبد العادل" الأزلي. .. يطلق المصريون عبارة "العدد في الليمون"، للدلالة على التوافر والرخص البالغ. لن يتغيّر العالم العربي قبل إعادة الاعتبار لروح المواطن الفرد، وبمستقبل أبعد قد نحلم بمصطلحاتٍ غربيةٍ مقدسة أخرى، مثل "المواطن دافع الضرائب". يرونه مستحيلاً ونراه بعيدا.