ثورة الكرامة.. الفقراء لا يجيدون الشحاذة

ثورة الكرامة.. الفقراء لا يجيدون الشحاذة

02 يناير 2020
+ الخط -
عشية الثورة، كنا نتساءل بإلحاح: كيف لا يثور الشعب اللبناني، وقد حوّلته الأحزاب الحاكمة إلى شحاذ؟ كانت الخدمات المفترض بأي دولة أن تقدّمها، مثل هِبةٍ يتكرّم بها زعماء هذه الأحزاب. الصحة، التعليم، الطرقات، التنمية المحلية، الوظيفة، كلها كانت تتم بنوعٍ من الشحاذة الأنيقة: أعطيك أيها المواطن شيئاً مما تريده، مقابل ولائك التام لي.
الأزمة الاقتصادية التي طلّت برأسها على اللبنانيين عشية الثورة دفعت تلك الأحزاب إلى التقْنين بإحسانهم. خذ مثلا الانتخابات النيابية قبل عامين: انخفضت قيمة الرشوة مقابل التصويت إلى مئة دولار، وأحيانا إلى خمسين، مقابل الاقتراع لصالح هذا أو ذاك من ممثِّلي تلك الأحزاب، أو تشغيل الأولاد في مراكز الاقتراع، في مقابل مبلغ لا يزيد عن السابق، أو تغطية الدخول إلى المستشفى لحالاتٍ مستعصيةٍ، أو تأمين الدواء مجاناً لحالاتٍ مزمنةٍ، أو إلغاء غراماتٍ معينة، أو إدخال طفلٍ إلى مدرسةٍ رسمية، مجانية، أو إخراج لصٍّ صغير أو متوسط من السجن.. وفي حال كان ابن الرعية أعلى طبقةً بقليل، كانت الرشوة هي نقل الشرطي من بيروت إلى القرية، حيث يمكنه أن يمارس الزراعة مع مراقبة السيارات القليلة، أو التوظيف في واحدةٍ من الفئات الدنيا في واحدةٍ من "مؤسسات" الدولة. وهكذا، كلما ارتفع المواطن الشحاذ درجةً طبقيةً، كان الإحسان يتجسّد بوظيفةٍ أعلى، بجائزةٍ أغلى، ثم أغلى، ثم أعلى، حتى نصل إلى الفئة الأولى.
وجهٌ آخر من "الإحسان" كانت تمارسه السلطة، ويتّصل بالأول، كان حرماننا من الكهرباء
 والماء والبحر والهواء؛ أو حتى من معاملةٍ عاديةٍ في الدوائر الرسمية. وكل واحدةٍ من هذه الخيرات تسلب وقتاً وجهداً ومالاً، ينثره طالبها، من ماله الخاص، أو أعصابه، أو عزّة نفسه. هذا الوجه، مثل الذي سبقه، بالاستجداء والتضرّع وعبارات "الله يخلّيك"، "الله يخلّي ولادك"، "الله يخلّيك فوق رأسنا"... وغيرها، تتنوّع بتنوّع اللهجات. لكي تلبَّى واحدةً من الحقوق البديهية، البسيطة، كان على المواطن اللبناني أن يخفض رأسه، متواضعاً، مغلوباً، واعداً بمنتهى الولاء لـ"المرجع" الذي وقف خلف تسهيل هذا البديهي، أو تمريره. وكلما ارتقى حزب حاكم في "الرؤية"، كانت هِباته تترجم بما عُرف بـ"شبكات الأمان"، أكثر تنظيما وفعالية، وهي الأطر التي "يخدم" بواسطتها أنصارَه في غالبية الأوجه.
أيضاً، وبأناقةٍ أدبيةٍ بالغة، كان بعض علماء الاجتماع عندنا يفسِّرون كل هذه الاستكانة الشعبية بوجه سلطةٍ تمعن في تخريب حياة الناس، وفي إهانتهم عشرات المرّات، منذ طلوع الشمس وحتى غيابها، فينطقون بتلك العبارة المتبصّرة، ذات الشأن: إنها "الزبائنية". يشرحون بها استسلامنا عبر صيغةٍ مقْنعة، خلاصتها أن الاقتصاد، أو "نمط الإنتاج الاقتصادي"، صارَ قائماً على حاجة المواطن إلى عطاءات الزعيم، من خدماتٍ أو وظائف أو تمريرات أو تغطيات، أو رشوات، مديدة أو مؤقتة.
لم يعُد هذا المواطن في لبنان قادراً على الاحتجاج، لأنه، من دون هذا الزعيم، قد يموت جوعاً، 
أو برداً، أو يهلك سجيناً من دون محاكمة. وطبعاً كل طائفةٍ بحجمها وعزوتها. ما يزيد من التماهي الأوثق وسط الطائفة الأقوى، وبين رعاياها من أبناء الطائفة الواحدة. ديمومة النظام، حالة التسوّل التي بلغتها يومياتها، كانت، بحسب أولئك العلماء، داخلة ضمن تلك الحلقة المغلقة: النظام يستمر بتحويل الشعب كله إلى متسوِّلين، فيقتل من المهد أية مناهضةٍ له. وكان ما يُحكم إغلاق هذه الدائرة أن اقتصاد الدولة بأسره كان قائماً على الشحاذة من الخارج. ولكن الثورة انفجرت، وكسرت تلك الحلقة، وباسم كرامةٍ مهدورة. ونقمةٍ عارمةٍ على من حوّل حياتنا إلى شحاذةٍ يومية؛ وفسادٍ يقابلها، يتخطّى الخيال، لدى رؤوس هذه السلطة، وما دونها من رتبٍ بقليل.
العيش بكرامة، برفع الرأس، الشعور باحترام المرء لنفسه ولشعبه، تلك كانت واحدةً من رسائل الثورة. وإن كانت عباراتها تمرّ عبر الصورة، والشعار، والملْصق، والنكتة، الاسكتْشات المختلفة على "يوتيوب"، والفنون على أشكالها... ترفع كلها الكرامة بوجه الشحاذة.
ماذا كان ردّ السلطة على الثورة؟ بمزيدٍ من الشحاذة، بفضل تواطؤها مع المصرف المركزي.
فكان استجداء المواطن كونتوارات المصارف، ليعطوه أمواله هو. وترجّ، وتضرّع، مجدّداً، "الله يخلّيك..."، "الله يوفقك...". أو لمن كان أعلى شأناً، التفاهم مع مدير المصرف على مبلغٍ أعلى من ذاك المعتَمد. وهذا الأخير، على كل حال، لم يبقَ على ما كانه، فمن كان يشحذ ألف دولار من حسابه، أصبح يشحذ خمسمئة، ثم مئتين.. والحبْل على الجرّار.
ثم، "انتبه" القيمون على التسوّل بأن الناس "جاعت"، قبل أن تجوع فعلاً. ربما استعجلوا الأمر، تحسّبا، من يعلم؟ فعادوا إلى عادتهم القديمة، وذلك انسجاماً مع أنفسهم. فهم، على الرغم من نزول مئات الآلاف من اللبنانيين للمطالبة بتنحّيهم، بقوا غارقين في ألوان المناورات على 
الحصص، وقلقين على شعبيتهم المضروبة. وتذكّروا الشحاذة التي قد تستعيد شيئاً منها، فكان خير تذكّر.
بدأوا ينظمون حملات "الخير" على رعاياهم، ولكل طائفةٍ رعيةٌ وزعيم، فيوزّعون علب الغذاء، وملحقاتها، ويتصوّرون بكامل هندامهم الحزبي، وهم على أبواب البيوت الفقيرة، وأصحابها المسرورين بتلك المبادرة الخيّرة، ممنونون، يمدحون، ينوّهون، ويخفضون رؤوسهم. وانضم إلى أصحاب السلطة منافسون لهم، أو معدلِّون لميزان قوى ما، تواكبهم الأقنية التلفزيونية، بالاسم والصورة، يتصدّرون الشاشة، وإلى يسارهم المواطن الذريعة، المواطن الوِسام، الذي أُحسِنَ إليه، راضخاً مذلولاً. ودمعته الغالية يكاد يُمسكها.
إحدى الأقنية وقعت في فخٍّ لم تحسبه، على لسان صبي في الخامسة عشرة من عمره، قال لـ"المُحْسن" الحامل معه مكْرمته: "رأيتُ الكاميرات تسبقكَ، يا سيدي، كي تصوركَ وأنتَ تعطف عليّ بمبلغ من المال وبمواد غذائية، وأنا بالرغم من فقري وبؤسي، لا زلتُ أمتلك الكرامة وعزّة النفس، فالجوع والملابس البالية أفضل من الذلّ والإهانة. ولو أردتَ العطاء، فافعله من دون أن تعلم يدك اليسرى ما تفعله اليمنى..." ("مترجَم" من العامية).
يمكن الإكثار من الأمثلة المشابهة. أيضاً: عشاء عيد الميلاد الذي نظّمته إحدى الجمعيات المعنية بتنظيم الاحتفالات الكبرى، زفاف، مهرجانات، معارض... في ساحة الشهداء، مكان التظاهر، مساحة الثورة، نظّمت رئيسةُ هذه الجمعية عشاء "خيرياً"، وراحت تتنهّد أمام الكاميرا من شدّة تأثّرها بـ"حالة الناس" وما شابه من عباراتٍ شفوقة، عطوفة. تدعو فيها ألفي "فقير"، أو "جائع"، ليتناولوا ما هم محرومون منه. هنا أيضاً، لم تتوفّق روح الشحاذة. الكاميرا التي تحمّست لها في البدء راحت تهْملها. فأكثر من ثلاث أرباع الطاولات المُذوِقة كانت فارغة.
مثلٌ أخير: زعيم طائفي، جاءته فكرة أكثر "براعةً"، وربما أوفر. أنشأ مطبخاً في بلدته، على باب قصره، لإطعام الجياع فيها وفي المنطقة المحيطة بها، فكان ردّ هؤلاء سريعاً، إنهم لا يحتاجون إلى طعام مجاني، إلى استجداء مطبخ الزعيم؛ وإنهم ليسوا شحّاذين، إنهم أصحاب عزّة وكرامة. والعبْرة أن الفقراء، القدماء منهم والجُدد، لا يجيدون الشحاذة. الفقراء ليست مهنتهم الشحاذة. بل قد يكون الشحاذ أغنى منهم...
هذا النوع من الهبّة "الخيرية" من أهل السلطة أو توابعهم ما هو سوى تكرار للنظام الذي رسا على امتداد السنوات، ونظَّم العلاقة بين أفراد الرعية وأبوابهم العالية من زعماء طوائف. أما الآن، بعد الثورة، فصارت الفكرة أن ثمّة مواطنا، لا ابن رعية، له حقٌّ على أصحاب السلطة. وهذا من أسُس كرامته، فيما العمل الخيري تعريفاً هو مبادرة مدفوعة بحبّ الناس، بكرم النفس ونبْلها، لا تبغي شيئاً في المقابل. وهذا ما يقوم به الآن مجهولون، يغرفون من الثورة معنى الكرامة، وبالملْموس.