ليبيا.. مخاطر على الجوار والإقليم

ليبيا.. مخاطر على الجوار والإقليم

02 يناير 2020
+ الخط -
تشهد ليبيا، منذ أشهر، تصاعد التوتّر على أكثر من صعيد أمني/ عسكري تحت غطاء كامل للاختراقات والتدخّلات الجوارية والإقليمية، مع تداعيات لتهديداتٍ حقيقيةٍ، إذا اتسعت الفوضى، لتطاول الجوار، وتجعل من المنطقة، بكاملها، فضاءً رماديا يعوّض الجماعات الإرهابية ومافيا تهريب السلاح والبشر ما فقدته في منطقةٍ جغرافيةٍ أخرى، ترعرعت فيها ونمت مدّة قاربت العقد (منذ 2011)، سواء في العراق وسورية أو في مناطق أخرى من الساحل الشاسع، وصولا إلى القرن الأفريقي.
وعلى وقع ذلك كلّه، تجري مناوراتٌ سياسية، في عدة بلدانٍ منخرطة، بشكل كبير، في النزاع الليبي، كما تعرف المنطقة، أيضا، تغييرات، في الجزائر، مثلا، قد تؤثّر في مسار الأحداث في الأسابيع والأشهر المقبلة، خصوصا أنّ الرئيسين الروسي بوتيـن والتركي أردوغان سيعقدان الأسبوع المقبل محادثات في أنقرة، قد يُؤسّس فيها لتعاون بين البلدين في ليبيا على شاكلة ما وقع قي شمال سورية بعد انطلاق عملية نبع السلام التركية هناك، وإن كان أردوغان قد استبق ذلك الموعد بإطلاق تصريحاتٍ بشأن تورّط روسيا في ليبيا من خلال نشاطات مشبوهة لشركة، واستخدام مرتزقة لمساعدة المارشال حفتر في معركة طرابلس.
يجب الرّبط، هنا، بين ملّفي ليبيا والسّاحل، لأنّ ما يحدث في ليبيا مؤشّر خطير على ما سيحدُث
 من تغييراتٍ في الصّحراء الكبرى وامتدادها السّاحلي، وهو ما دعا إلى ترتيب زيارة، لم تكن مبرمجةً في أجندة الرّئيس الفرنسي، ماكرون، إلى ساحل العاج، قصد تحضير رّد عسكري وأمني، من هناك، على الضّربات الموجعة للإرهاب في مثلث الرعب الواقع بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، شركاء باريس في مجموعة الخمس دول للسّاحل، إضافة إلى تصاعد الانتقادات السّاحلية ضد الوجود الفرنسي الأمني/ العسكري، من ناحية، والاقتصادي من ناحية أخرى. وعلى المستوى نفسه، جاء الرّد التركي بترتيب زيارة، مفاجئة، أيضا، إلى تونس، لجسّ نبض الرّئيس الجديد، قيس سعيد، بشأن دور ما لبلاده في ليبيا، وهو ما أدّى إلى سيل من الانتقادات لساكن قصر قرطاج، سرعان ما رد عليها بأن تونس تنأى بنفسها عن الدخول في أي حلف، وأن أراضيها لن تكون نقطة انطلاق لتركيا، ولا نقطة ارتكاز لها للتمركز، أو لتنفيذ ما تراه في صلب مصالحها في طرابلس.
وثمّة اختراقات/ تفاعلات كثيرة تتصارع على خلفية معركة طرابلس، و هو ما يمكن استشفافه من خلال الأسلحة المتدفقة إلى هناك، والاتفاقيات الموقعة بين حكومة الوفاق وتركيا، ومختلف الفرقاء الذين يستعين بهم المارشال حفتر، دولا (الإمارات ومصر) أو مليشيات (جنجويد وتشاديين ومرتزقة روس). وتتدفّق الأسلحة من دول كثيرة، تعمل على استمرار استعار المعارك بين مختلف الفرقاء الليبيين، ومن خلالها يمكن فهم مسار المصالح المتقاطعة على 
الأرض الليبية، بغرض الاستحواذ على صفقتين حيويتين، الطاقة (نفـط وغاز) وإعادة الإعمار التي ستتلو نهاية المعركة واستتباب السلم في طرابلس، بعد صراع يقارب، إن استمر، العقد.
تتقاطع خريطة تدفّق الأسلحة مع خريطةٍ أخرى، تتضمن مختلف المنخرطين في الساحة الليبية من قوى عظمى (روسيا والولايات المتحدة)، وقوى كبرى (فرنسا) وإقليمية (إيطاليا، تركيا) وصغرى (مصر والإمارات). وتبرز أهمية ليبيا، من خلال التنافس المحموم بين كل تلك القوى. ودولة مثل ألمانيا التي اضطلعت بدور محايد للبتّ في الشأن الليبي أضحت تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى، بالنّظر إلى تعقّد المشهد، من جهة، والعراقيل التي تجدها من الدول المنخرطة في التأثير على الصراع الليبي، من جهة أخرى، ما أدّى، مراتٍ، إلى تأخير موعد مؤتمر برلين المقرّر أن يشهد تسوياتٍ في ليبيا، ويفسح المجال أمام إجراء مسار انتخابي ينهي الصّـراع، ويحقن الدّماء هناك. وهنا، يأتي الدّور على دول الجوار للبروز في المشهد، وإن كان بزخم المبادرة التي تأتي من خارج الإقليم على غرار الدعوة التركية إلى إشراك كل من تونس والجزائر في الملف الليبي المزمع في برلين، ولكن بخلفية الشريك الأكبر الذي يخطط، يهندس ويأمر الآخرين بالتطبيق في زوايا يراها أصغر عليه في اللعبة برمّتها.
يكبر المشهد الليبي، ليبرز أنه مكان ارتكاز الصراع المقبل بشأن ملفين حيويّين: تمركز الجماعات الإرهابية في ملاذ شاسع يبرّر لصفقات أسلحة واستراتيجيات تمرير قضايا كبرى، على غرار صفقة القرن، وملف الطاقة الذي سيشكل محور تحركات كل القوى، سواء العظمى (الولايات المتحدة وروسيا والصين)، أو الإقليمية، أو التي تدور في فلكها من دول الإقليم، الكبيرة منها والصغيرة.
على هذا، ليس الصّراع في ليبيا بشأن الشرعية، بين فصيلين، أحدهما معترفٌ به دوليا 
(حكومة الوفاق) وأخرى يقودها لواء متقاعد، بل هو صراع جديد لفصول صراعاتٍ شهدها العقد المنتهي، ويجهز نفسه ليكون أداة صعود قوى، أفول قوى أخرى وإبراز استراتجيات جديدة، ولكن ذلك كله على خلفية الدورة العادية للاقتصاد الرأسمالي بين ثنائية الأزمة/ الكساد والنّمو/ التطور، وما يستلزم ذلك من أدواتٍ جديدة، بعد دخول العالم عصر الذّكاء الاصطناعي والطّاقات المتجدّدة، وهما رهان المعارك التي سيخوضها الاقتصاد الرأسمالي في المستقبل القريب.
وعندما نفهم هذه الرمزيات، ونلتقط إشارات المعنى الحقيقي للصراع في ليبيا، نصل إلى فهم جيّد للرهانات، والتي لم تعرف دول المنطقة، خصوصا منها الواقعة في شمال أفريقيا (مصر وتونس والجزائر والمغرب)، خصوصا، كيفية التعامل معها، وتركت المجال لدولٍ، من خارج الإقليم، وخصوصا تلك المصطفة، مع هذا الفريق أو ذاك، على حساب المصلحة الليبية، في إحلال السلام المجتمعي وإقرار السلام السياسي بين كل الفرقاء، للعب الدور الحيوي، وهو ما ينذر، إذا استمر الصراع وتمدّد، بأسوأ التداعيات الأمنية والعسكرية والإنسانية، كما سيفتح الباب واسعا، لحلٍّ من دون مشاركة دول شمال أفريقيا المذكورة فيها، على غرار ما يجري التحضير له بخصوص الاجتماع المزمع في برلين.
الى أين يسير الصراع في ليبيا؟ وفق المؤشرات المتاحة، الآن، وتطور الأحداث وتسارعها، قد تكون الحرب إن امتدت، وسقطت طرابلس، وخيمة النتائج، وعلى المستويات كافة، وهو ما يستدعي استفاقةً من الدول جارة ليبيا، للاصطفاف مع السّلام المجتمعي، ومع الحلّ الذي يخدم اللّيبيين من دون تدخّل من خارج المنطقة، ومن دول نعرف نتائج تدخلاتها من مشاهد ماثلة، أمامنا، في اليمن وسورية والعراق، وفضاءات أخرى انتهت إلى ثورات مضادّة، فهل تكون ليبيا في القائمة أم أنّ دول المنطقة تنهض من سباتها لتؤثر في مسار مجريات الأزمة والنزاع في هذا البلد؟