عيون التلفزيون

عيون التلفزيون

09 سبتمبر 2019

(Getty)

+ الخط -
يحدث أنك حين تتصل بالتلفزيون، وتطلب منه تغطية لحدث أو فعالية، يواجهك سؤالٌ من قبيل: من سيرعى المناسبة؟.. يُفهم مباشرةً أن الأهمية مرتبطةٌ بمن يرعى الفعالية التي إذا لم تستطع أن ترقى إلى إقناع "الكبار" بالحضور، فلن يأتي التلفزيون لتغطيتها. ولذلك ظلت عين التلفزيون (العين الكبيرة التي يمكن أن تعكس أحوال الناس والمجتمع) مغمَضةً أو مترفّعة عن هموم الناس وشواغلهم وأسئلتهم الجوهرية، إلى الحد الذي تلحظ بسهولة أن الإذاعة والصحف أكثر قربا وتنويعا وحميمية، في موادها وبرامجها، من التلفزيون الذي يُفترَض أن يكون المرآةَ الأكثر قربا من نبض الشارع وحياة الناس، نظرا إلى توفّره على المؤثرات الإقناعية الأهم بين جميع وسائط الاتصال، كالصورة والمونتاج والدوبلاج وغيرها من الوسائل التي يمكنها أن تقرّب الحياة وشؤونها.
المواضيع التي يمكن الوقوف عليها في مجتمعات دول الخليج كثيرة ومتعدّدة وثرية وغزيرة، خصوصا في جانبيها، الاجتماعي والصحي، وهما الجانبان الأقرب إلى الناس ومحيطهم. لماذا يترفّع التلفزيون، مثلا، عن ذكر أحوال الجاليات الآسيوية، وخصوصا المقيمين من بلدان شبه القارّة الهندية، والذين يشكلون، حسب إحصائيات رسمية وما نشره أخيرا دليل إنديكس وورد، قرابة نصف السكان وأكثر في بعض البلدان. وعلى الرغم من ذلك، هذا العدد "مقصيّ" من الإعلام، ولا تقدّم عنه سوى تغطيات صحافية، وغالبا بعد حدوث جريمة!.. بينما ثقافتهم الثّرية، من فنون وطبخ وعادات ومواهب وآداب، غائبة عن التغطية، فلا يوجد أي برنامج تلفزيوني يهتمّ ويعرّف بهم، ويقترب منهم، ويدخل بيوتهم.
اختيار التلفزيون الخليجي نموذجا هنا، دونا عن التلفزيونات العربية الأخرى، لأنه يمتلك من الإمكانات، المادية والبشرية، الكثير، ولكنْ لا نلمس لها انعكاسا لنبض الحياة وأسئلة الناس. كما أن التلفزيون في دول الخليج هو الذي يستحوذ على أهم الكوادر المؤهلة، والميزانية المخصصة له هي الأكبر، قياسا بالميزانيات المخصصة لغيره من وسائل الاتصال ووسائطه، ففي وقتٍ نرى تلفزيونات العالَم المتحضر تتحسّس نبض الناس وهواجسهم، بل صارت لا تكتفي بأن تناقش تفاصيل الحياة الراهنة للناس فقط، إنما ترسم حتى التوقعات، فمن أهم الشروط التنافسية للإعلام، في الدول الإسكندنافية مثلا، أن يمتلك خيالا توقعيا! أي أن يتوقع مواقف وقضايا ليست بالضرورة موجودة أو متفشية في الظرف الراهن، لكنها محتمَلة الحدوث، مثل قضايا الإرهاب وقضايا اختطاف الأطفال، فينجزون أفلاماً تسجيلية حية في الحدائق والأماكن العامة عن إمكان حدوث أي ظاهرة وكيف يمكن التعامل معها؛ مقتنعين بأن هذه الحلول لن تتم بدون مشاركة الناس؛ وهم بذلك يطرحون حلولاً استباقية.
هذا هو الفرق بين الإعلام الحيّ المتفاعل الذي يعيش الواقع والحياة والإعلام المترفع والمتقوقع حول ما هو رسمي ودعائي. على سبيل المثال، استبقت نيوزيلندا ظاهرة اختطاف الأطفال في أوروبا، والتي كان من ضحاياها بعض العرب؛ ربما لأنهم من أكثر الجاليات الذين لديهم تعدّد في الولادات.. وثمّة كتاب مذكرات مهم، ألّفته نبيلة بن عيسى، عنوانه "باسم أختي"، شهد انتشارا واسعا، وتأسست بفضله جمعية خاصة بذوي المختطَفين في بلجيكا. تتحدّث المؤلفة في كتابها عن اختطاف أختها (تسع سنوات) حين كانوا يقيمون، هي ووالداها وإخوانُها الثمانية، في بروكسل. التقط التلفزيون النيوزيلندي هذا الحدث، وبدأ في أعمال ميدانية بين حدائق الأطفال، ولعب أفراد فيه أدوارا تمثيلية للمختطِفين، مستعينين بالحلويات والبالونات، وما شابهَ من أساليب اكتشفوا أن المختطِفين في أوروبا كانوا يستعملونها لاستدراج ضحاياهم من الأطفال.
كما يستعين التلفزيون النيوزيلندي، في بداية الموسم المدرسي، بـ"شرطة المخدّرات" لتعريف الطلبة بأنواع المخدرات التي يمكن أن يقدّمها لهم المروّجون، فيأتي شرطي وفي يده حقيبة صُفّ فيها أنواع مختلفة من المخدّرات، ثم يقدّم شرحا مفصلا عن مضارّها الكبيرة؛ وبذلك يكون الطفل، وهو يستقبل الحياة خارج البيت، معبأ بمعارف يمكن أن تقيه من التعرّض لأي تهلكة مستقبلا.
إنه عمل استباقي يؤدّيه الإعلام التفاعلي ضمن رسالته الإنسانية السامية، إعلام لا يترك أي شيء مجهولا، أو ينتظر حدوث المشكلة وتفاقمها ثم صعوبة السيطرة عليها، بل يتخيّلها ويجسّدها واقعيا لتسهيل مواجهتها في حالة حدوثها.
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي