مع حزب الله التاريخ لا يكرّر نفسه

مع حزب الله التاريخ لا يكرّر نفسه

05 سبتمبر 2019
+ الخط -
بعد الاعتداء الإسرائيلي المسيَّر على مركز حزب الله في الضاحية الجنوبية من بيروت، لم يعُد مفيداً، ولا صالحاً، التكلّم عنه كما لو كنا ما زلنا في يوليو/ تموز 2006. ثلاث عشرة سنة مرّت على تلك الحرب المدمّرة، جرَت تحت أقدامنا في أثنائها مياه كثيرة وجديدة. في تلك الأيام، كان ثمّة قطبٌ مناهضٌ للحزب، داخل الحكومة اللبنانية نفسها، يطرح عليه بديلاً عن سلاح الدويلة التي أنشأها؛ بديلاً بدا وقتها جدّياً، لما تنطوي عليه المواقف الرسمية الصادرة عنها، من احتمالات أن لا تبتلع الدويلة الهزبلهية دولةً، هي بالأصل هزيلة. أما الآن، بعدما صار حزب الله حاكماً متحكّماً، بفضل حرب 2006، فقد تلاشى أصحاب "الدولة". لم يَعُد لهم وجود، إلا بلسان وجيهيْن، أو ثلاثة، من وجهائها. وانخرطوا في صفقةٍ صريحةٍ مع هذا الحزب، يأكلون حصتهم من "الدولة"، البالغة الثمن، مقابل تسييرهم شؤون الحزب بالمتوفر من "إمكانات"؛ وهي حصصٌ غير متساوية، حصة كل شريكٍ تُقاس بدرجة تسليمه للحزب. وهذه مقايضةٌ لا حاجة إلى وصف آثارها المدمّرة على وجود لبنان بحد ذاته. ولكن، لا يهمّ، طالما أن أصحابها يجلسون على عروشهم، ويغتنون كما يجب أن يغتني رجال جمهوريات الموز الفالتة من عقالها، فما عاد هناك معنى لكلمة "دولة" أصلاً، ولا للمناداة بعودتها إلى الساحة، لتقوم بواجبها بوجه مليشياتٍ تصادر قرارها بالسهولة المعهودة. ولا بالتالي قطب يجذب من لا يستسيغ هذه المليشيات. جُوِّفت الدولة بسرعة قياسية، هي الفاقدة أصلاً حصانتها. كل رجالاتها صاروا في جيب الحزب. ما أراحَ حزب الله، بُعَيد الاعتداء الإسرائيلي أخيراً، ودفع نائب أمينه العام، نعيم قاسم، إلى التعبير عن سروره من "الرئاسات الثلاث" (الجمهورية والوزراء والنواب) على "موقفها النبيل والشريف" من هذا الاعتداء. 
أيضاً: استُدخلت هيمنة حزب الله على مصير البلاد. صارت تحصيل حاصل، إلى درجة أن استنكارها صار حديثاً كسولاً، متهاوناً، خائفاً. خَفُتَ وهج السنوات التي بنَت مجد خصوم حزب الله. اختلال فادح لميزان القوى لصالح تمكين الحزب من التمكّن من لبنان. جيلٌ بعينه كبر 
على هذه الهيمنة الجديدة، ولم يعد يلاحظها، إلا وقت الشدّة. وصار يحتاج إلى دروس في التاريخ المعاصر، ليفهم كيف سيطرت المليشيات المقاتلة من أجل إيران الإسلامية، كيف استطاعت أن تدمّر جدار الدولة، وتصيغ زعاماتها وتؤلف رئاساتها، تُقصي هذا، وتحرّم ذاك. أو ليتذكر الأكبر منه سناً أن حزب الله فعل بالدولة ما لا يفعله عدوها اللدود؛ قتلها، أفرغها من الحياة، بالتواطؤ مع حلفائه القدماء، وخصومه الأقدم منهم، فحرب 2006، كانت محطة حاسمة في هذا الصعود. الانتصار "التاريخي الاستراتيجي الإلهي" لم يكن على إسرائيل التي ما زالت عائشة، بقضّها وقضيضها، إنما انتصار على الدولة اللبنانية.
ثم إنه قبل سنة من حرب 2006، كانت ثمّة انتفاضة اجتمع حولها، بعد الزعامات المختلفة الطوائف، شعبٌ لم يصدّق نفسه أنه موحّد تحت رايةٍ وطنية. "انتفاضة الاستقلال" كانت لكل الألوان والأشكال اللبنانية الممكنة، فتحت جداراً من الأمل بأننا نعود إلى بعضنا، ولو تحت قيادة زعاماتٍ محسوبةٍ كل واحدة على طائفتها. وكانت أصواتٌ مسموعةٌ تحاول أن توسّع فتحة الجدار بين الطوائف، ترفع راية الدولة بوجه الدويلة، القانون الوطني بوجه القانون الإقليمي، المؤسسات بوجه المليشيات. الآن؟ انظر إلى تلك الطوائف، كيف عادت إلى قواعدها سالمةً غانمة، كيف أصبح غير ممكن التكلم عنها، إلا عبر مصفاة الحصص الموزّعة على زعمائها. الآن، إذا رفعتَ إصبعك بوجه حزب الله، لن يأتيك الجواب، إلا إذا صحبته بإصبعك المذهبي. وهذه إنجاز هائل لحزب الله، المذهبي بامتياز.
رابعاً، بعد حرب 2006، عَبَر الحزب الحدود اللبنانية، بعتاده ورجاله، ليشارك بشار الأسد في حربه على شعبه، منذ اندلاع انتفاضته ربيع عام 2011. بإمرة إيرانية، وحرس ثوري ترتجف لتصميمه الأبدان، صاحبَ السلاح طوال السنوات السابقة، وامتهن السياسة الإقليمية، فأصبح جزءاً بارزاً من لعبتها؛ بل أبرز من المليشيات المذهبية الأخرى الموالية لإيران، من يمنية وعراقية وأفغانية. وهذا بروز اكتسبه الحزب من خبرته "الظافرة" بعرض عضلاته أمام إسرائيل، ولعب دور الذراع اليمنى لإيران، قبل اندلاع الانتفاضة السورية؛ وبالذريعة نفسها، فلسطين، التي لم يَعُد يصدّقها أحد، بما فيهم، أو بالأخص أصحاب الذريعة، فالمواجهة الإيرانية - الأميركية التي يلعب فيها حزب الله دور "السّنيد" ليست مرهونة إلا بمصالح الدولتين.
ولمن يراهنون، ولو بميوعة، على القطب العالمي الذي يمكنه أن يتجاوب مع دعوةٍ ضد هيمنة هذا الحزب: الولايات المتحدة التي كانت في 2006 تقارع إلى جانب إسرائيل، وتدعم 
الانتفاضة اللبنانية ضد الوجود السوري، وضد سلاح حزب الله. وهذا دعم، فوق أنه مشبوه، لأنه يربط بين مصالحه ومصالح إسرائيل وحسب، فإنه متردّد. وخصوم حزب الله من الذين دخلوا معه في الصفقة التحاصّصية ما زالوا يحلمون بعودة أميركا التي رفعت من درجة قدراتهم، كما في الأيام الخوالي. ولكنهم لن يفلحوا هذه المرّة، فأميركا لا تريد مقارعة الإيرانيين حتى النهاية، ولا تريد حرباً شاملة معها. فقط تنازلات، أو تفاهمات، أو ترتيبات، مع إسرائيل، تحفظ حقوق الاثنتين، إيران وإسرائيل، في المشرق العربي. خذْ مثلاً حادثة قبر شمون منذ شهرين. اختلف المتحاصصون على الحصة، وجناح حزب الله في رأس الدولة، العونيون، المعنيون المباشرون بالحادثة، وقفوا طبعاً إلى جانب حليف حزب الله، بإصرارٍ لا مثيل له. متأكدين أنهم سيفوزون بمزيد من الحصص. وإذا ببيان من السفارة الأميركية يثبط عزيمتهم ويدفعهم إلى المصالحة مع الجناح التحاصصي المحسوب على الأميركيين، ولو ضمنياً. تلك هي الفُتات التي يمكن تحصيلها من مأدبة الأميركيين. وكأن الأميركيين، هم أيضاً، استدخلوا حكم حزب الله، وباتوا يعاملونه كأمر واقع، كطرف ليست العداوة معه مطلقة، على الرغم من العقوبات الاقتصادية، فالحزب فرع محلي من كلّ إقليمي. بكلام أوضح: لم يعد هناك أي بدائل جدية لحكم حزب الله. فقط أصوات، أفراد، في البرّية غالباً، يكتبون لمن لن يقرأ.
كان الحزب هو المبادر إلى خوض حرب 2006، بخطفه جنوداً إسرائيليين، وبحجة أنه يخوض "حرباً استباقية" ضد "مؤامرة" ضد أميركا وإسرائيل. وبعد هذه الحرب، خرج قوياً. الآن، وبعد استيلائه على السلطة، و"نضجه" الأمني والسياسي، تعرّض لهجوم الدرون، ثم هدّد بالرد، فكان ردّاً "مدروساً"، يقوم على عدم رغبة إيران وأميركا بالانجرار إلى حرب شاملة بينهما. وكان رداً إسرائيلياً على الردّ، يكظم غيظه من انعدام الرغبة هذا. ما أصعد حزب الله إلى قمة غير مسبوقة، يجيد فيها استنزاف مصائرنا؛ لعبة لا تعني لبنان إلا بما يترتب على لبنان من تسليم لحكم ملالي إيران، ومزاجهم الإمبراطوري النووي.