المعارضة بين التجربتين المصرية والسودانية

المعارضة بين التجربتين المصرية والسودانية

05 سبتمبر 2019
+ الخط -
كشفت أحداث الربيع العربي، وتوابعه المستمرة، عن علاقات القوة بين الأنظمة السياسية الحاكمة والمعارضة من ناحية والمجتمع من ناحية أخرى. في كل من مصر والجزائر هناك حالة متشابهة بين النظامين الحاكمين والمجتمع، فالمصريون ينظرون إلى الجيش أنه الحامي للدولة المصرية ومحرّرها (قوض الرئيس المصري الحالي هذه الصورة)، ولذا كانت هناك حالة من التماهي والثقة مع المؤسسة العسكرية بعد تنحي حسني مبارك. وينظر الجزائريون إلى الجيش أنه جيش التحرير، وبالتالي هناك حالة من الثقة فيه. بينما الأمر على خلاف ذلك في التجربة السودانية حالة مغايرة، فمن اللحظة الأولى للمظاهرات التي استمرت شهورا لإطاحة الرئيس عمر البشير، كان هناك التفاف من المعارضة حول مطالب الشعب، وفي الوقت نفسه، بعد تنحي البشير، كان هناك التفاف من الشعب حول المعارضة (خصوصا قوى الحرية والتعبير). ويرجع الأمر إلى أمرين: للأول علاقة بالاستراتيجيات التي اتبعها كل من الجيشين المصري والسوداني، وللثاني علاقة بالمعارضة وامتلاكها رؤية ومشروعا سياسيين. كما أن صورة الجيش السوداني ليست هي نفسها التي يتمتع بها الجيشان المصري والجزائري، فالسوداني انخرط في عمليات حروب أهلية وارتكاب مجازر، كما حدث في إقليم دارفور، وهذا أثر على عقيدته القتالية وبنيته من ناحية، وعلى صورته العامة لدي الشعب السوداني من ناحية أخرى. صحيح أن لكل تجربة في الربيع العربي خصوصيتها وظروفها السياسية المختلفة عن الأخرى، ولكن السعي إلى تأسيس تنظيم وبناء سياسي بمشروع ورؤية سياسيتين واضح المعالم متاح للجميع. 
فرضت عملية احتواء الثورة المصرية وأسلوب إدارتها من الخارج نفسها منذ اللحظة الأولى،
 وقبل تنحّي مبارك بأيام، فبعد أن تم الانقلاب الناعم على السلطة، بدأت الإشارة الحقيقية إلى أن المرحلة المقبلة ستكون ذات طبيعة مختلفة في إدارة المشهد الانتقالي، تتسم بالذكاء والمراوغة السياسية، واستخدام آليات تخدم المؤسسة العسكرية، وتطمئن حلفاءها، خصوصا الخليجيين منهم، وهذا ما سعت المؤسسة العسكرية إلى فعله منذ اللحظة الأولى، ثم سرعان ما فشل الأمر، فقد ظهرت النزاعات الشخصية داخل أعضاء المؤسسة العسكرية السودانية والطموح إلى الوصول للسلطة على طريقة الجنرال المصري عبد الفتاح السيسي.
في التجربة المصرية، كان هناك إصرار من المؤسسة العسكرية على الإبقاء على المؤسسات القديمة، وعدم تطهيرها، ومحاولة تقديم طرق إصلاحية من دون المساس بجوهر بنيتها الداخلية، أو آليات عملها، في محاولةٍ جادة لاستنساخ النظام وإعادة إنتاجه، بما يسمح للنظام المستنسخ بالهيمنة مرة أخرى، وسيطرته على الحكم مجدداً، فعلى الطريقة الروسية لحكم المخابرات (كي جي بي)، وعلى الطريقة الرومانية إبّان عهد شاوشيسكو، عادت الأجهزة الأمنية، خصوصا المخابرات، تحكم الدولة المصرية. لم نجد هذا الأمر في التجربة السودانية، ولعل هذا يرجع إلى تركيبة الدولة وبنية النظام الذي مرّ بانقلابات عدة، ما أضعف قدرته على تأسيس بيروقراطية تتزاوج معه، أو تكوين ولاءات داخلها. في الوقت نفسه، أدت الجرائم التي ارتكبتها مجموعات التدخل السريع، بقيادة اللواء حميدتي، والتي انزلقت إلى استخدام العنف بصورة مباشرة، إلى الكشف عن نيات المؤسسة العسكرية مبكرا، كما أنها ذكّرت الشعب السوداني بالجرائم التي ارتكبتها تلك القوات في دارفور.
في التجربة المصرية، لجأت المؤسسة العسكرية إلى استعداء الشارع على الثورة، وحشد الأغلبية الصامتة ضدها، وتمثل ذلك في أمرين: إحداث فراغ أمني في الشارع، وترويج أكذوبة انهيار الشرطة، وإلقاء المسؤولية على الثورة والثوار، وهو ما أثبتت التجربة فشله، وبيان كذبه فيما بعد. الأمر الثاني، التأكيد على انقسام الشارع باصطناع حشد كاذب، هو ما عرف بحشد العباسية في مواجهة حشود ميدان التحرير الصادقة. لم يحدث هذا الأمر في السودان، فبعد إطاحة البشير مباشرة، تمت إطاحة وزير الدفاع نتيجة ضغوط الشارع، وهو ما يعكس وعي الشارع السوداني الذي استمر في مظاهراته عدة أشهر، وأظهر تماسكا وتماهيا مع المعارضة، على عكس الشارع المصري الذي تاق للاستقرار بعد ثمانية عشر يوما من المظاهرات، وأظهر نفورا من معارضته السياسية ورموزها، ولذلك أسباب كثيرة، منها انقسام المعارضة المصرية وتشتتها وعدم امتلاكها رؤية سياسية أو خطابا توضح وتشرح من خلاله خطواتها المستقبلية.
استثمرت المؤسسة العسكرية في مصر مزيدا من الوقت، لكي تنشأ القوة الليبرالية الجديدة، وتأخذ مساحة أكبر في الساحة السياسية، وهي قوة معروفة بعلاقتها وتحالفاتها القريبة من السلطة، وقد تجلى الأمر من خلال التمويلات المختلفة لفرض الهيمنة في توجيه عمل القوى السياسية والحزبية الجديدة. وكذلك دعم أحزاب ناشئة عديدة، أو إنشاء أحزابٍ لأهداف معينة، وهذا يذكّر بالمشهد الجزائري، وما فعلته المؤسسة العسكرية الجزائرية من إنشاء أحزاب ودعمها، بغرض بقاء المؤسسة وتوطيد أركانها من خلال التمثيل السياسي المدني. وهو ما لم يحدث في التجربة السودانية، فقوى الحرية والتغيير (تتشكّل من تجمّع المهنيين، الجبهة الثورية وتحالف قوى الإجماع الوطني) وتحت كل واحدة من تلك المجموعات تنضوي مجموعات من تيارات وأيدولوجيات عديدة، وهي نشأت من رحم تلك الاحتجاجات، وليس بدافع من النظام. ومن اللحظة الأولى، أعلنت تحيزاتها الواضحة للثورة السودانية والشعب السوداني، على عكس الليبراليين أو المعارضين المصريين المدنيين الذين أعلنوا تمسّكهم بالدولة، متمثلة في النظام، وتمرير قوانين قمعية عديدة، كقانون المحاكمات العسكرية للمدنيين، كما أنها كانت رأس الحربة التي تستعملها المؤسسة العسكرية في محاربة الإسلاميين الذين سعوا إلي التحالف، في الوقت نفسه، مع المؤسسة العسكرية.
عبرت المعارضة المصرية عن أزمات المجتمع المصري وأسئلته المعلقة بلا إجابة منذ ثورة 
1919، وأبرز هذه الأسئلة كان سؤال الديمقراطية، ففي وقتٍ ادعت تلك المعارضة أنها تسعى إلى الديمقراطية، قوّضت بنفسها تلك اللحظة الديمقراطية التي وصلت إليها الدولة المصرية، عبر انتخاب أول رئيس مدني في تاريخ مصر الحديث، وتحالفت مع المؤسسة العسكرية في إطاحته. في الوقت نفسه، فإن جماعة الإخوان المسلمين التي وصلت إلى السلطة عبر تلك الانتخابات الديمقراطية هي في ذاتها وتركيبتها جماعة غير ديمقراطية، وانعكس هذا على أدائها وهي في السلطة من ناحية، وكذلك أدائها تجاه أعضائها، خصوصا المنشقين عنها. في هذا الوقت الذي تعاني فيه المعارضة المصرية من أزمةٍ تتعلق بكيفية الوصول أو بناء توافق ديمقراطي، استطاعت المعارضة السودانية أن تبني، وبكل وضوح، بنية توافقية على أسس ديمقراطية، تستطيع من خلالها أن ترسم ملامح المستقبل، وأن تعبر عن انحيازها لمطالب الشعب السوداني وطموحاته في نظام سياسي ديمقراطي مدني، يحكم الدولة ويخرجها من أزماتها المتراكمة عبر السنين. امتلكت المعارضة السودانية تنظيما سياسيا بمشروع سياسي واضح المعالم، فاستطاعت، في لحظة تاريخية معينة، أن تصل إلى عقد اتفاق مع المؤسسة العسكرية، وبرعاية دولية. بموجبه أكدت شراكتها في إدارة المرحلة الانتقالية، وقدرتها على تقديم البديل المدني، بينما حتى اللحظة فشلت المعارضة المصرية في الداخل، وقبل الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو/ تموز 2013، في بناء تنظيم سياسي (على طريقة الحرية والتعبير السوداني أو الاتحاد العام التونسي للشغل) أو تقديم مشروع سياسي، فكانت النتيجة ظهور أبرز قيادات المعارضة مساء يوم الانقلاب بجوار وزير الدفاع، وبرعاية إقليمية، للإعلان عن إطاحة أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر الحديث. حتى اللحظة، وبالأداء والعقلية نفسيهما، تستمر أزمة المعارضة المصرية في الخارج، في عدم قدرتها على بناء تنظيم سياسي بمشروع سياسي واضح المعالم.
استفادت المعارضة السودانية من التجربة المصرية، وحاولت عدم تكرار أخطاء المعارضة المصرية، فنجحت في ذلك، ووصلت، ولو مرحليا، إلى تحقيق نجاح في اقتسام السلطة مع المؤسسة العسكرية، وبرعاية دولية. صحيحٌ أن الأخطار التي تهدّد المسار الديمقراطي لا زالت موجودة، ولكن هذا ليس حكرا علي التجربة السودانية، بل في أعتى التجارب الديمقراطية دائما هناك تهديد للديمقراطية، وأبرز دليل ما يفعله اليمين المتطرّف في دول أوروبية ديمقراطية، وسعيه إلى تقويض الأسس الديمقراطية ونشر الكراهية.
BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.