سورية.. ليست مكافحة فساد فقط

سوري.. ليست مكافحة فساد فقط

29 سبتمبر 2019
+ الخط -
حدث في عام 2003، وفي حمأة وعود أسدية في سورية بإصلاحٍ كان بشار الأسد قد أعلن عن ضرورته، وسط تدابير احترازية منعت كبار قادة الحزب والحكومة وأسرهم من مغادرة البلاد، أن وزير التخطيط في حينه، عبد الله الدردري، قلل من أهمية الزراعة قطاعا اقتصاديا منتجا، بينما كانت الأسواق تختنق بسلع ومستوردات أجنبية، صينية وأوروبية، أثارت قلقا شديدا في أوساط رجال الأعمال والتجار، حتى أن قرابة ألف منهم وقعوا عام 2007 عريضةً أرسلوها إلى رئيس الوزراء، ناجي العطري، تخبره بعزمهم على إغلاق مصانعهم وأعمالهم، ورمي ما يقارب ثمانين ألف عامل في الشارع، إن استمرت سياسة الانفتاح القاتلة التي تجعل أي سلعة أوروبية شهيرة، أدنى ثمنا من السلع المنتجة محليا. 
بإهمال القطاع الزراعي الذي عبر عنه تصريح الدردري، وبالانفتاح الفائق الليبرالية على السوق الدولية الذي أغضب "برجوازية" جبانة، لم يسبق لها أن كتبت عرائض، واتّخذت موقفا غاضبا من أي قرار حكومي، وقع قبل عام 2011 تطوّر قيّض له أن يكون أحد الأسباب المباشرة والرئيسة لثورة السوريين، في العام نفسه، أدّى إلى انفكاك قطاعات واسعة من الفلاحين عن النظام، علما أنهم كانوا، منذ انقلاب عام 1963، قاعدته الطبقية، وحامله الحاضر بكثافة في دولته العميقة وحزبه وبيروقراطيته، بسبب النكبة التي جعلت رئيس اتحاد فلاحي اللاذقية يسأل رئيس الوزراء إن كانت حكومته قد قرّرت القضاء على الزراعة، وإخراج مليون وثلاثمائة ألف فلاح مع أسرهم من منطقة الجزيرة، انتشروا في مدن سورية وقراها، وصولا إلى حوران 
والساحل، بينما تم إهمال 15% من الحقول المزروعة قطنا، بسبب رفع سعر ليتر المازوت من ست ليرات إلى 24 ليرة، وطن مواد مكافحة الحشرات والنباتات الضارّة من 12 ألف ليرة إلى قرابة خمسين ألفا. وبما أن معظم الفلاحين كانوا يأخذون قروضا من المصرف الزراعي، فإنه بادر إلى مصادرة أراضي الذين عجزوا منهم عن سداد ديونهم، ما أسهم بدوره في انهيار الزراعة وانتشار الجوع، وتوزيع منظمات الغوث الدولية 25 ألف سلة غذائية في منطقةٍ طالما قيل إنها ستطعم العالم العربي.
بالقطع مع الفلاحين، كسر بشار الأسد الغصن الذي يجلس نظامه عليه، ونشر بوادر الثورة، ثم الثورة نفسها، في الأرياف. وبالتخلي عن البرجوازية، حدث ركود تضخمي فتاك، أطاح مداخيل العمال والموظفين أيضا، وعطل النمو في القطاع العقاري، قاطرة الاقتصاد السوري الذي توقف تقريبا عن العمل، لوجود فائض هائل من الشقق غير المباعة، وبلغ عددها في دمشق وحدها 245 ألف شقة، بينما تراجع إنتاج النفط إلى مستوىً لا يغطي حاجة الاقتصاد منه. ومع أن الأسد استرضى التجار بإطلاق أيديهم في البلاد والعباد، فإن ما اعتمده من سياساتٍ ليبرالية متوحشة قوّض علاقة النظام التي بناها والده مع "البرجوازية" السورية، واستبدلت، من الآن فصاعدا، بأغنياء السلطة الجدد، بصلاحياتهم التشبيحية التي لا تخضع لقانون، وأي قانون يمكن أن يطيعه مثلا رامي مخلوف الذي وصل الأمر من تشبيحة إنه استولى على صالون حلاقة ناجح في حي أبو رمانة، وحيدرة نجل بهجت سليمان الذي أدخل أنواعا من اليانصيب إلى سورية عادت عليه بالمليارات، ويسار الأسد الذي كانت سياراته تدخل إلى مستودعات الجمارك للحصول على الدخان الأجنبي المهرّب مجانا، مقابل رشىً تدفع لمسؤولين كبار طالما أمروا الدوريات بإطلاق النار، انتقائيا ومن حين إلى آخر، على سيارات الأسد، ليقال إن الجمارك تكافح التهريب. أخيرا، من سيتقيّد بقانون، إذا كان بشار الأسد قد أعطى بطاقته الشخصية لوفد اقتصادي كويتي، تبين عند الاتصال معه أنه رقم رامي مخلوف.
(2)
هذا الشرخ الأول الذي علّق النظام الأسدي في الهواء مجتمعيا، وفكّك علاقته مع الفلاحين تحت، والبرجوازية العقارية والتجارية فوق، وربط وجود الأسدية واستمرارها بجيش الدولة العميقة ومخابراتها، وأمعن في إبعاد العمال عن السلطة، فعل فعله في التمرّد الثوري الهائل الذي أنزل في أحد أيام الجمعة من عام 2012 قرابة ثمانية ملايين متظاهر إلى الشوارع، أو 35% من الشعب السوري، في سابقةٍ لا مثيل لها في تاريخ الثورات القديمة والحديثة، وجعل بشار الأسد يتساءل أمام مقرّبين منه: وين الحزب، وين المؤسسة الأوقافية؟ لم يبق لنا غير المخابرات والجيش، ولا بد أن نسحق بهما المجتمع.
يقع اليوم شرخ ثان أكثر تعقيدا، يبدو في ظاهره اقتصاديا، لكنه يتجاوز الاقتصاد إلى بنية السلطة، القائمة على أربع أفخاذ من عشيرة الكلبية، وحّدها حافظ الأسد ووضع 80% من قيادات الجيش والمخابرات في يدها. هذا ما أخبرني به أحد العارفين، قال إن استمرار النظام يتوقف على بقاء 
هذه الأفخاذ موحدة من جهة، أو على تحالف يُنجزه السنة مع العلويين الذين لا ينتمون إليها، وفرض عليهم الولاء لها بعد الثورة، موقف التنظيمات الإسلامية المسلحة ممن أسمتهم النصيريين، وتوعدتهم بالذبح، وكانت نتيجته انحدار الثورة إلى اقتتال طائفي، خطط له النظام الأسدي، واستحالة فك العلاقة بين بقية العلويين والمسيطرين عليهم أيضا من خلال الدولة العميقة، وتبلغ نسبتهم من مجمل السوريين من الطائفة العلوية بين 10% و12%، وتقوم سياساتهم على قدرٍ من استفزاز السنة، يحجب عنهم واقع العلاقة بين العلويين والسلطة الأسدية من جهة، ويخيف السوري العلوي إلى درجة الموت، دفاعا عن سلطة هو أداة بيدها من جهة أخرى، تضحّي به كي لا يصاب النظام الأسدي بعطب جوهري، سواء من حيث انفراده بالسلطة والقرار، أم من حيث سيطرته على الجسم العلوي خصوصا، والسوري العام عامة، ويتوقف أمن النظام واستقراره على استمرار القطيعة والعداء بين طرفيه هذين.
السؤال الآن: هل ستنقسم ملة السلطة الأسدية الحاكمة، بموقف بشار الأسد من آل مخلوف، الذين يمثلون حالة نوعية ضمن مصادرات يتعرّض لها أيضا الأغنياء الجدد من لصوص الحرب، شركاء بشار الأسد وأدواته الذين حان وقت تجريدهم من مسروقاتهم، كليا أو جزئيا، بما أن ذلك يُظهر النظام بمظهر العازم على تطبيق العقوبات الدولية المفروضة عليهم، ويجعل بشار الأسد الثري الأكبر، إن لم يكن الوحيد، في سورية، ويمد المصرف المركزي الذي أعلن رئيس الحكومة إفلاسه رسميا، ببعض الدولار، الضروري لدرء الانهيار الوشيك للوضع الاقتصادي برمّته، ومن عقابيله الكارثية على النظام الذي يعلن أنه انتصر عسكريا في حربٍ يخشى أن تسقطه نتائجها الاقتصادية، علما أن بدائل الأسد الشخص موجودون سياسيا بوفرة، في طبقة الأغنياء الجدد، وأمنيا في الشبيحة، وفي وسع هؤلاء الدخول في صفقةٍ دوليةٍ تمدّهم بالسند السياسي الضروري لإطاحة من فشل في منع قيام ثورة ضده، وارتكب من الجرائم ما لا يقرّها قانون. وربما يكون قد قرّر أن يوسع هوامش حركته، وامتلاك الأموال اللازمة لشراء الولاء لسلطته، كي لا يرضخ لصفقةٍ يخشى أن تنجزها روسيا مع واشنطن وأوروبا، من الممكن أن يكون العمل جاريا لها، من خلال إيجاد بديل له، يقال إن خاله محمد مخلوف، المقيم منذ أعوام في موسكو، قد تكفل باقتراحه، ونصح الروس باعتماد نجله رامي رئيسا مقبلا لسورية، بعد الحل السياسي، وأن هذه النصيحة كانت وراء الإجراءات التي اتخذت بحق المرشح الرئاسي البديل، وشركاته وإخوته، بل وضد عرّاب الأسدية الأكبر وشريك حافظ الأسد في تأسيسها، محمد مخلوف الذي يرجح أن لا يكون لقمة سائغة في فم بشار.
هل يفضي الإجراء الأسدي إلى شق النواة الصلبة لأفخاذ عشيرة تتحكم بأقدار السوريين العلويين 
وسورية، أم أن الدولة العميقة التي يمسك بها وبمفاتيحها أسديون من عشيرة الكلبية ستبقى موحدة وموالية لبشار الذي نقل معركة بقائه إلى داخل هذه الدولة، يفتح باب احتمالات محلية ودولية خطيرة، ويثير قدرا من الخلاف والتناقضات بين من قامت وحدة السلطة وحاملها العشائري على وحدتهم؟.
سؤال إضافي: هل ستتوقف جماعة الخط المتأسلم عن رمي جميع السوريين العلويين في قدر واحد، لطهيهم بدمائهم، وهل سيواصلون خدمة الأسدية بموقفهم الذي يجعل سورياً علوياً فقيرا يعيش في بؤس إحدى قرى الساحل السوري مساويا في الإجرام والوحشية لبشار الأسد، ويستحق القتل مثله، أم سترى الواقع بأعينٍ صاحية تميز ما في الطرف الآخر من تلاوين، وستقلع عن إدراج جميع السوريين العلويين تحت بند النصيرية الذي كان واحدة من أدوات النظام لكسب الحرب؟
لا بد، أخيرا، من متابعة دقيقة، وطنية ونزيهة، للنتائج التي ستترتب على إجراء يبدو اقتصاديا، لكنه يرجّح أن يفضي إلى شرخ في نواة السلطة الحقيقية، يمكن أن يتّسع بقدر ما ينجح مقاومو الأسدية في توسعته، وتفكيك قطاعات سورية علوية متزايدة الاتساع من خضوعها للعصابة الأسدية التي يدل تدبيرها أخيرا ضد العائلة المخلوفية أنها تريد استعادة ما قد تكون تخلت عنه من صلاحياتها لهذه الجهة أو تلك، وأموالها، خلال الحرب، وما كان لها من انفراد بالسلطة، استعدادا لمقاومة الألاعيب الدولية المحتملة الخاصة برئاسة بشار الأسد الذي ما إن أوشكت الحرب على التوقف، وأخذت الجهود الدولية تبذل لإيجاد حل سياسي للصراع، حتى جرّد معظم الأغنياء الجدد من ممتلكاتهم وأموالهم، بدءا بابن خاله رامي مخلوف، فهل يستعيد بهذه التدابير سلطات أبيه كاملة، أو يفقد السيطرة على نتائج الشرخ الذي أحدثه في بؤرة النظام المركزية، ويطرح عليه سؤالين: إعادة إنتاج وحدة العشيرة على أسس جديدة مغايرة لما وجد من أسس لنظام أبيه، للمحافظة على هوية السلطة وطابعها في ظرف متغير، أو أن يواجه متاعب لا قبل له بها، بعد أن قوّض بيديه ما كان من قبول شعبي له ولنظامه؟

E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.