رئاسة القائمة المشتركة ومصيدة غانتس

رئاسة القائمة المشتركة ومصيدة غانتس

29 سبتمبر 2019
+ الخط -
ليست هذه المقالة بصدد المزاودة على نضالات فلسطينيي الأرض المحتلة في 1948 الذين قاوموا كل محاولات عزلهم عن بقية الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية المشروعة، ولا بصدد التخوين أو الاتهام من دون دليل أو حُجة، ولا يحق لكاتبة المقالة ذلك كله، ولكن توصية القائمة المشتركة للنواب العرب في الكنيست (البرلمان)، باستثناء نواب حزب التجمع الوطني الديمقراطي الثلاثة، بمساندة رئيس الأركان السابق لجيش الاحتلال الإسرائيلي، الجنرال بني غانتس، لرئاسة الحكومة، تحت شعار التخلص من منافسه بنيامين نتنياهو، سابقة مقلقة، بل ومدانة، وها هي قد ارتدت على القائمة ورئيسها أيمن عودة، فلم يكتف غانتس برفض مطالب القائمة التي تضم أربعة أحزابٍ وشخصيات قيادية تمثل فلسطينيي 1948، بل وصفها بأنها مسيئة لحزب أزرق أبيض الذي يترأسه، لنعرف فيما بعد، ومن أيمن عودة نفسه، أن غانتس طلب دعمه بعشرة أصوات من القائمة العربية التي تضم ثلاثة عشر نائبا، وذلك حتى يحصل على 54 صوتا، أي أقل بمقعد من التحالف الذي يقوده نتنياهو، بغرض إفشال مسعى الأخير لتشكيل حكومة، وبالتالي يستطيع غانتس الحصول على شروطه لتشكيل حكومة برئاسته، هو بدلاً من نتنياهو. وكان "التجمع" قد أعلن أن موقفه عدم تصويته على التوصية بغانتس رئيسا للحكومة كان قد أعلن عنه قبل انتخابات الكنيست المعادة في 17 سبتمبر/ أيلول الحالي وبعدها. 
ليس ازدراء غانتس مطالب القائمة العربية المشتركة وشروطها مفاجئا، وإنما هي الصدمة في التوصية به رئيسا للحكومة، خصوصا وأنها تصادفت مع بدء جلسات استماع دعوى قدمها فلسطيني استشهدت زوجته وأطفاله خلال العدوان الصهيوني على غزة الذي قاده الجنرال المتقاعد غانتس عام 2014، الفخور بمجازره، ويحملها وساماً صدره مجبولا من دم ضحاياه الفلسطينيين.
لا يمكن فهم ما حدث بالضبط، ولكن لا بد من إدانة الموقف غير الموفق للقائمة المشتركة.
 والقول إن توصيتها (باستثناء نواب "التجمع" كما سبق التنويه) بغانتس رئيسا للحكومة الإسرائيلية غير مبدئية صحيح، ولكن كيف يمكن فهم الهدف منها؟ يكتب رئيس القائمة في مقال نشره أخيرا في "نيويورك تايمز"، "إننا على وشك إنهاء هيمنة نتنياهو على إسرائيل". وقد أعطى المقال انطباعا بأن التخلص من نتنياهو يمهد الطريق لتحقيق المساواة وإنهاء العنصرية وإنجاز حل عادل للقضية الفلسطينية. كأن نتائج الانتخابات أخيرا على أهميتها قد أفرزت معسكرا تحرّريا بديلا، أو على الأقل بداية تشكيل تيار تغيير جوهري في تركيبة الدولة الصهيونية، بينما الحقيقة أن الخريطة السياسية تكشف عن امتداد وصعودٍ لليمين الإسرائيلي بكل درجاته.
بغض النظر عن النيات، مقال أيمن عودة إشكالي، خصوصا وأن نشره في الصحيفة الأميركية الشهيرة تزامن مع إعطاء الدعم لرئاسة غانتس الحكومة، صب في صالح تيار موجود داخل اللوبي الصهيوني والليبراليين المؤيدين لإسرائيل في الولايات المتحدة، والذين يختصرون تدهور "سمعة إسرائيل" بسياسات نتنياهو، ويعملون من أجل تجميل صورة الدولة الصهيونية، وتصوير الجنرال غانتس "وسطيا" و"معتدلا"، فيما تتطابق مواقفه مع نتنياهو تماما، بشأن ضم القدس وبناء المستوطنات ورفض حق عودة اللاجئين الفلسطينيين واستمرار السيطرة الإسرائيلية على غور الأردن. أما حديثه عن تأييده المساواة وإنهاء التمييز ضد الفلسطينيين فليس أكثر من كلام خادع، أكّده تنصله العلني من توصية القائمة المشتركة، مع أنه يحاول، في الخفاء، توظيفها لصالحه.
كما أن المقال وقع في مصيدة "لغةٍ تخاطب ناجحة" مع الغرب، فاستخدام خطابٍ قريب منتشر في الإعلام الغربي، المؤثر عادة يُفهَم في سياق روايةٍ أسس لها هذا الإعلام، ففكرة تخليص إسرائيل من نتنياهو تماهت مع ادّعاءات تظهر كل عقد أو أقل، حين يصبح رئيس وزراء إسرائيلي يجاهر بوقاحة علنية بعنصريته، واحتقاره إنسانية الفلسطينيين، مثل أرييل شارون ونتنياهو، عبئا على "سمعتها" خصوصا بين يهود العالم، وهو دور أتقن لعب دور البطولة فيه الكاتب الصهيوني الأميركي توماس فريدمان. وللأسف صب مقال أيمن عودة في "نيويورك تايمز" في قالب هذه الرواية التي يجري توظيفها كلما استوجب تصنيع فرقٍ مصطنع بين الأيدولوجيا الصهيونية بممارساتها وممارسات السياسيين الإسرائيليين.
يجب هنا احترام خصوصية وضع فلسطينيي الأراضي المحتلة في 1948، فهم يعيشون في عالم تسيطر عليه القوانين والمفاهيم الصهيونية بتفاصيلها اليومية والحياتية، لكنهم استطاعوا الصمود، وقاموا بتحد مباشر لواقع قاس، في غير مناسبة، منها يوم الأرض في العام 1976، كان يوم إعلان وحدانية الأرض الفلسطينية والحقوق الفلسطينية، على الرغم من كل محاولات التجزئة. ولم يكن يوم الأرض معزولا أو ذكرى تحرّك مقاوم منفرد، بل نتيجة واستكمالا لمقاومة مستمرة.
فلسطينيو 48 هم الأقدر على فهم عقلية الصهاينة، نتعلم منهم، لكن ذلك لا يعني ألا يكون لنا رأي، بل وموقف يدين خطوة خطيرة، مثل تأييد الجنرال غانتس لرئاسة حكومة إسرائيل، خصوصا لأن سياسيي هؤلاء الفلسطينيين ومثقفيهم وباحثيهم، في وطنهم وأرضهم، هم الأكثر معرفة بالمؤسسة والثقافة الصهيونيتين. ويشار إلى هذا الأمر مع إدراك أن هناك خطوات لها علاقة بوضع الفلسطينيين في الداخل، فهم الهدف المباشر لعنصرية الصهيونية من تمييز وإفقار وحرمان من حقوق اجتماعية وإنسانية، فيما صبّت التوصية، وبشكل مباشر، في استقواء سياسي صهيوني، أي الجنرال غانتس، الذي لم يعط الشروط المرفقة، وفي مقدمتها إلغاء قانون القومية اليهودية أي اعتبار، فهو لا يهتم أصلاً بالفلسطينيين، سواء كانوا في القدس أو الناصرة أو غزة أو في الشتات.
الإشكالية السياسية الأخرى التي وقعت بها القائمة أن فكرة دعم سياسي صهيوني، وإنْ كانت 
مشروطة ولأي سبب كانت، تأتي في وقتٍ تسارع فيه التطبيع بين الأنظمة العربية والدولة الصهيونية، ونشهد حملات تستهدف الوعي العربي والعالمي، ممولة عربيا وأميركيا، في محاولة لإقناع أجيال عربية خصوصا بأن التطبيع مع إسرائيل فعل حضاري، بينما تجري شيطنة الفلسطينيين ومقاومتهم ضد الاحتلال. وتنشر مقالات تشكك في الرواية الفلسطينية، وللتغطية على عملية التطهير العرقي على أرض فلسطين.
وليست رئاسة القائمة العربية المشتركة في حاجة إلى من يعرّفها بخطر الصهيونية، ولذلك الخطوة مستغربة، وتؤشر إلى خلل تجب مواجهته، وليس هناك وقتٌ لإيجاد المسوغات والتبريرات له، فالنواب في القائمة أعلم بأهمية الوقت للمشروع الصهيوني الكولونيالي، فأي خطوة قد تضعف حركة مقاومة التطبيع، أو تشكل ضربة لها، ولو غير مقصودة، والمنخرطين بكل أشكال المقاومة. وفي النهاية، على رئاسة القائمة تحمل مسؤولية خطئها.
لا أستطيع أن ادّعي أنني أفهم ما حدث، لكنه بدا لي مراهنة خطيرة لا تتماشى مع الفكر التحرّري المقاوم. وإذا كانت انتخابات الكنيست قد أظهرت الثقل السياسي العربي الفلسطيني، فمن الخطير استخدامه، فيما يبدو، في لعبة أو بالأحرى مصيدة "صناعة الملوك". ليس هذا دور قيادات الشعب الفلسطيني، فهذه اللعبة تخدم ساسة الصهاينة في نزاعهم السلطوي وتنافسهم على القضاء على حقوق الشعب الفلسطيني. تغير الكثير منذ نكبة فلسطين في العام 1948، لكن ما لم يتغير، وظل ثابتا أساسا، هو الفكر التحرّري المقاوم، هو بوصلة للعمل السياسي، وغير ذلك لا ينتج إلا قيادات مهزومة.