"جميعهم، ما عداي".. إثيوبيا والاستعمار الفاشي

"جميعهم، ما عداي".. إثيوبيا والاستعمار الفاشي

24 سبتمبر 2019
+ الخط -
تبدأ رواية "جميعهم، ما عداي"، للكاتبة الإيطالية فرنشيسكا ميلاندري، بمشهدٍ غريبٍ يجري صبيحة العام 2010، عندما تعود المعلمة الأربعينية والمناضلة من أجل حقوق الإنسان، إيلاريا بروفيتي، إلى منزلها فتُفاجأ بوجود شابٍّ مهاجر أسود، يقول إنه جاء ليقابل جدّه، أتّيليو بروفيتي، أي والد إيلاريا نفسها. بيد أن أحدا في العائلة ليس على علم بماضي هذا الوالد الذي أمضى خمس سنوات في إثيوبيا، هي الفترة التي قضتها إيطاليا الفاشية في استعمارها تلك البلاد. 
قبل أن يبلغ بيت جدّه، كان شيميتا بروفيتي قد عاش محنا عدة، وعانى الأمرّين، وهذا ما سيخبره لعمته بدءا من دخوله السجون الليبية التي لم يخرجه منها سوى استقبال رئيس الحكومة، بيرلسكوني، رئيس ليبيا معمر القذافي في روما، ما دفع الأخير إلى "تنظيف" سجونه وإفراغها إذا صح التعبير. بعد ذلك، عبر شيميتا البحر المتوسط في ظروف بائسة لا حاجة إلى ذكرها الآن، طالما صارت أكثر من معلومة، ليبلغ روما، حيث رفضت السلطات طلبه اللجوء، فإذا به يتوجّه إلى حيث يقيم جدّه، لينزل في حياة عمّته التي ستباشر تحقيقا يكشف لها كل ما تجهله عن حياة والدها البالغ 95 عاما، وقد بدأ الخرف يعيث في ذاكرته خرابا.
ما ستكتشفه إيلاريا ليس ماضي أبيها فحسب، بل هو تاريخ إيطاليا الحديث بما يحويه من مناطق ظلّ وأحداث غير مشرّفة ومأسٍ وقعت إثر احتلال "القمصان السود" بلاد الحبشة ما بين عامي 1936 و1941، مع كل ما استتبعه ذلك من تصفياتٍ وقتلٍ وفساد وعنف، ومجازر وقعت في أديس أبابا، وقوانين تمييز عنصري ومنع اختلاط بين الشعبين، على الرغم من أعداد الأولاد الهائلة المولودين من "الطليان"... أجل كان هناك ذات مرة بلادٌ تدعى الحبشة، أراد الدوتشي تطويعها، فإذا به يبيد جزءا كبيرا من سكّانها، مرتكزا على "نظريات علمية"، تصنّف الناس بحسب لون بشرتهم، وترى إلى هؤلاء "المتوحشين" بشرا منقوصين، تطلق عليهم، بسبب سوادهم، لقب "محروقين".
تبني الكاتبة قصتها المتخيّلة عن هذه العائلة على أحداثٍ تاريخية حقيقية، وعلى رحلةٍ قامت بها إلى إثيوبيا، حيث التقت مهاجرين، واستمعت إلى قصصهم، كي تتعرّف إلى واقعهم عن كثب، وهي طريقة عملها دائما في روايتيها السابقتين اللتين تشكلان، مع هذه الرواية، ما تسمّيه "ثلاثية الآباء"، مظهرةً بذلك الماضي الاستعماري لبلادها، وأثره الحالي في العقليات، وفي مآسي المهاجرين إلى إيطاليا.
"جميعهم، ما عداي" هي الجملة التي تلخّص مبدأ أتيليو بروفيتي في الحياة، المستعد لكل شيء كي يعيش ويثري وينجح. إنه الوعد الذي قطعه على نفسه، ألا يموت، حين لم يكن يبلغ من العمر أكثر من تسع سنوات، ثم في عمر 19 عاما عام 1936، عندما ذهب الفاشيون لاستعمار الحبشة، وإثر بلوغه 23 عاما حين رجع إلى إيطاليا، ثم في السبعين من عمره، عندما قرّر أن يزور أرض أفريقيا مجدّدا، هذه المرة لكي يتحرّى عن مصير ابنه البكر المسجون الذي لم يقلق بشأنه يوما، ومع ذلك، يفكّ أسره من خلال كسبه جولةً في لعبة بوكر. إلا أننا لن نلبث أن نكتشف أن الغرض الأساسي وراء زيارته هذه هو توقيع عقود إنشاء بنى تحتية تُكسبه المليارات، من دون أن يضطر إلى تنفيذها حتى.
"من ذا الذي لم يكن فاشيا في الثلاثينيات؟"، تتساءل الكاتبة، في إحدى المقابلات التي أجريت معها. لذا تراها تنبش ماضيا لا يحبّ الجميع مواجهته، يغضّون عنه النظر، أو أنهم حتى يتنكّرون له. وهنا تحديدا تكمن قوة الكتاب، في ربطه الماضي ذاك بالحاضر، من خلال مساءلته عن كيفية تلقّي الإيطاليين وتعاطيهم مع موجات الهجرة القادمة من بلدان القرن الأفريقي تحديدا.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"