مصر.. هل صدق الربيع العربي وعده؟

مصر .. هل صدق الربيع العربي وعده؟

23 سبتمبر 2019
+ الخط -
في ساعات قليلة، كان هناك متظاهرون في أماكن عدة في مصر يهتفون، في مظاهراتٍ خالفت حتى ما بدا أنه اتفاق على النزول أمام المنازل من دون تجمّع في ميدان أو شارع رئيس. كانت النقلة مفاجئة لكثيرين، فلا تنظيم هرميا، ولا شبكيا، رعى التحرّك، ولا جماعة سياسية زعمت أنها قرّرت حشد جماهيرها. 
من خرج للتظاهر؟ ولماذا؟ سؤالان تحمل الإجابة عنهما بذرة منطق تحليل سياسي جديد، من المتوقع أن تتبلور ملامحه لاحقاً، يتمحور حول "اللامرئيين" في الواقع السياسي المصري، هؤلاء الذين يصدقون "وعد الربيع العربي"، بعد ما شهدته موجتاه الأولى والثانية من خيباتٍ كبيرة، ونجاحاتٍ محدودة في تونس والسودان، فالمؤكد أن مشهد "20 سبتمبر" كان مشوباً بشيء من الغموض، أي مشهد الخروج للتظاهر في مصر في اللحظة الراهنة، بكل ما فيها من عوامل تدفع إلى الخوف من القبضة الأمنية، والإحباط الناجم عن مآلات الثورات في مصر وسورية وعيرهما، والريبة في أن يكون الداعي المجهول، الممثل المقاول محمد علي، جزءاً من لعبةٍ ما تمسك خيوطها قوى مجهولة، أو "مجهولة معلومة".
استجابة من تظاهروا استجابة لدعوة هذا الداعي حالة تستحق الدراسة، فالرجل ليس سياسيا محترفا له جمهوره، ولا هو استعان بآلةٍ إعلاميةٍ كبيرةٍ تحمل خطابه الذي لا يتجاوز عمره ما يزيد قليلاً عن أسبوعين، لكنه على الأرجح بدا للمستجيبين شخصاً "طيباً" تبنّى طفلاً يتيماً من عائلة كريمة، وآواه بعد أن شردته الأقدار.. وكأنه وجد "راية الثورة" ملقاةً في عرض الطريق فحملها، فاستحق أن يصدّقوه، وأن يخرجوا اقتناعاً بصدق "وعد الربيع العربي"، وإن انتكس إلى حين.
وهؤلاء الذين لم يشر شيء في سماتهم الظاهرة، لا جيلياً، ولا رمزياً، ولا ما هتفوا به، إلى 
اصطفافٍ تحت راية أيديولوجية، أو سياسية بالمعنى البسيط المباشر للوصف، هم الوقود الخام للتغيير، المستبشرون، المستعدّون للتضحية، القادرون على الوقوف في ميدانٍ تحيط به قوات فض الشغب، في وحدة مصير (قد يكون الموت) مع أناس غرباء، استجابةً لدعوة شخصٍ هو، في النهاية، غريب عنهم. وهنا تقف مقولات مثل: "الطبقة" و"وعي الطبقة" و"الالتزام التنظيمي" و"المصالح"، و... عاجزة عن التفسير وقاصرة عن إجابة السؤالين أعلاه.
والسمات التي غابت عن أن تتوفر في هؤلاء، ربما كانت من أسباب قلة الأعداد، وقلة الخبرة في التعامل مع المطاردة والكر والفر، وخبرات التصرّف في مواجهة قنابل الغاز، وخلو الذهن من تصوّر، حتى لو كان ساذجاً، للممكنات المرحلية وأساليب التصعيد، أو حتى وسائل استنزاف طاقة الخصم أو تشتيته. وهؤلاء مركبٌ يحتاج إلى من يستكشف حقيقته، من دون تصوّرات مسبقة، وقد يكون من المقطوع به أنهم ساخطون لم يصلوا إلى مرحلة اليأس، ومتفائلون لم يصلوا إلى مرحلة الثقة المفرطة بالنفس، وحالمون لا يخافون "الغرباء" خوفاً مرضياً. ولذا كانوا قادرين على الذهاب بعيداً، متجاوزين ما طمح إليه صاحب الدعوة، وهو كان حتى نحو أسبوعين ممثلا لا نصيب له من نجومية الفن الطاغية، ولا رصيد له، قبل هذا الوقت القصير، من التجربة السياسية.
إنهم "اللامرئيون" الذين لم تُحصهم قواعد بيانات الأجهزة الأمنية، ولم ينجح الخطاب التحليلي السائد في حشرهم ضمن معاييره التصنيفية، وهم مسلحون بـ "إدراك سياسي" واضح المعالم، وإن لم يرق إلى أن يكون وعياً سياسياً مؤطّراً بالصورة الكلاسيكية، وخروجهم يوم 20 سبتمبر، على الأرجح، ليس الأخير. وملامحهم تبدو كما لو كانت صورا في مرآة قول الشاعر أمل دنقل:
اذكريني إذا نسيتني/ شهود العيان/ ومضبطة البرلمان/ وقائمة التهم المعلنة
والدافع الرئيس لخروجهم أنهم يصدقون وعد "الربيع العربي".