العزف الانتخابي النشاز

العزف الانتخابي النشاز

22 سبتمبر 2019
+ الخط -
في برنامج إذاعي سياسي ساخر، تبثّه الإذاعة الفرنسية الرسمية، تناول المعلق الميل المستجد لدى الرئيس، إيمانويل ماكرون، إلى فتح النقاش بشأن مسألة الهجرة، في الأشهر الأخيرة، معتبراً، بلهجةٍ تمتزج فيها السخرية بالألم، أنه يحاول أن يسرق ناخبَي اليمين واليمين المتطرف اللذين ما فتئا يمحوران انتقاداتهما للسياسات الحكومية حول مسألة الهجرة بشكل رئيسي. وقد توجّه البرنامج بالميكروفون إلى مقابلة مواطنين عاديين في الشارع، متسائلاً عن أهمية الملف وضرورة طرحه. وعلى الرغم من الابتسامة التي يمكن أن ترتسم حين سماع تعليقات الأفراد المستهدفين، إلا أن درجة "العنصرية" الساذجة في أحاديث هؤلاء المستنطقين تُشعر بالرهبة من جهلٍ مُطبقٍ بحيثيات الملف، وبتضخيماتٍ ترد عبر وسائل التواصل لـ"فداحة" ظاهرة الهجرة واللجوء. 
في حواره مع نواب حزبه الهجين المسمّى حديثاً "الجمهورية إلى الأمام"، وهم يشكلون الأكثرية في الجمعية الوطنية، دعاهم ماكرون إلى مواجهة المسألة بشجاعة، بعيداً عن الروح التي وصمها بالبرجوازية النخبوية، والتي لا تعاني من آثار الهجرة في حياتها الرغيدة، معتبراً أنها تبعد نوّابه عن الخوض في المسألة المقلقة للمجتمع الفرنسي العادي، أي الشارع. وطلب منهم أن يكونوا هجوميين وليسوا دفاعيين، عندما يتطرّقون إلى مسألة الهجرة التي اعتبر أنها تُشغل عامة الناس، ويجب أن تُشْغِلَهُمْ. ويأتي هذا الحوار داخل الحزب لإعداد "قواته" للمواجهة في أثناء الحوار البرلماني الذي سيعقد بعد أيام، وسيكون لبحث مسألة وسياسة الهجرة واللجوء. ووصل به الأمر إلى اعتماد الرمز المشهور للقردة الثلاثة: الممتنع عن النظر، والممتنع عن السمع، والممتنع عن الكلام، لتحريض نوابه على تغيير الأداء ومعتبراً أن على الفرنسيين "أن يسمعونا في قضايا
 الأمن والهجرة". ومن خلال هذا الربط اليميني بشدة، يمكن تلمّس الاستقطاب الذي يوقد الأمر، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية المقرّرة في شهر مارس/ آذار 2020. وقد أفاد الرئيس الفرنسي، أمام نواب حزبه، بأن عدد طالبي اللجوء قد ارتفع بشدة في فرنسا، بعيداً عن أي رقم رسمي موثّق. وقد استغل الفرصة لتوجيه اللوم إلى الاشتراكيين الذين "رفضوا النظر في الموضوع عقودا، ما أدّى بالطبقات الشعبية إلى الانحراف بشكل واضح نحو اليمين المتطرف"، كما أضاف.
أحد المقرّبين للرئيس من أعضاء مجلس الشيوخ لم يمتنع عن التأكيد على البعد الانتخابي الذي دفع ماكرون إلى فتح هذا الملف، لأنه "يستبق الحملة الانتخابية للرئاسيات في سنة 2022 بمواجهة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرّف". وبهذا الاعتراف، يتوجّه ماكرون بثقة إلى ناخبي اليمين والمتطرّفين منهم تحديداً. وبالتأكيد، اطلع الرئيس الفرنسي على استطلاعات رأي توضح أن الهجرة تعتبر المسألة الأكثر إلحاحاً بالنسبة لـ 56% من أنصار الحزب اليميني المسمّى "الجمهوريين". وفي الدراسة نفسها، يكشف الاستطلاع أن 64% من الفرنسيين يشعرون بأنهم "لم يعودوا يشعرون بأنهم في ديارهم كما في الماضي".
إنها إذاً خطوة كبيرة تجاه ناخبي اليمين على أنواعهم، ما يُشعر الطرف الآخر بالقلق. وهذا ما دفع زعيمة اليمين المتطرّف، مارين لوبين، إلى القول إن ماكرون يبحث عن مكاسب انتخابية 
ليس إلا، ولن يعمد إلى القيام بأية خطوة عملية. وقد عارض يساريون في حزب الرئيس هذا التوجه ببيان مفتوح، ذكروا فيه أن تناول الملف بهذا الأسلوب يجري في ملعب اليمين المتطرّف، وأن التركيز يجب أن يكون أكثر على مسألة الاندماج وليس الهجرة. واعتبر موقعو البيان أن مجمل الدراسات الجدّية قد أشارت إلى الإضافة الاقتصادية الكبيرة، عندما تكون سياسة استيعاب طالبي اللجوء أو المهاجرين فعّالة. مع الإشارة إلى صدمتهم من وصم ماكرون من يدافع عن سياسة منفتحة بخصوص اللجوء والهجرة بـ"البرجوازي"، وبأن عليه أن يتوجه إلى الطبقات الأدنى التي تطالب بإيجاد قيود على المسألة. أسلوب يمثل إدانة غير مسنودة إلى جميع الفقراء ومتوسطي الحال، باعتبارهم معادين للأجانب، على العكس من ميسوري الحال البرجوازيين الذين لا يشعرون بأي خطر.
لقد ظهر الميل الماكروني إلى اللعب بهذا الملف ومخرجاته، من خلال الحوار الوطني الذي أطلقه جوابا تصالحيا لاحتجاجات "السترات الصفراء"، فعلى الرغم من تردّده بفتح موضوع الهجرة وتأثيراتها، إلا أنه استجاب لهذا بدافع "شعبوي"، لظنه أن مسألة الهجرة هي نقطة تلاقي مسارات مختلف المجموعات الشعبية التي تعارض سياساته. وقد قال، في شهر إبريل/ نيسان الماضي، إننا "عندما ندّعي الإنسانية، فيخشى أن نكون أحياناً شديدي التساهل" مع مسألتي الهجرة واللجوء. مشيرا إلى انحراف الطبقات الشعبية نحو اليمين المتطرّف وضرورة جذبهم منها عبر العزف على وتر الترهيب نفسه الذي يستخدمه المتطرّفون، أي اعتبار ملف الهجرة شائكاً وهاماً وأساسياً، على الرغم من عدم توفر العوامل التي تجعله كذلك، إن تمت دراسته علمياً.
في البرنامج الإذاعي الساخر الذي يستنطق المارّة، تصرخ سيدةٌ بأعلى صوتها، تنتقد التساهل مع المهاجرين واللاجئين، لتقول وبكل جدية: "نحن اللبنانيين نعرف هذا الوضع، وهو خطير على التجانس الثقافي للشعب المحلي".