هذه الأعوام الخمسة

هذه الأعوام الخمسة

03 سبتمبر 2019
+ الخط -
كان جديدا جدا على صاحب هذه الكلمات، قبل أزيد من خمس سنوات، أن يعرف أن صحيفة العربي الجديد التي سيُباشر فيها عمله الجديد ستصدُر عن موقع إلكتروني، أي أن المشروع هو موقع إلكتروني أساسا تصدُر عنه صحيفة، وليس العكس. ولذلك، كانت البداية في 31 مارس/ آذار 2014 بإطلاق الموقع، والذي استقبله، في الشهور الأولى، جمهورٌ عربيٌّ عريضٌ بحزمةٍ من الأسئلة والتساؤلات، ملتبسةٍ غالبا بمقادير من أفكار مسبقةٍ مرتابة، مع شططٍ في التعليب والتصنيف، حتى تبيّن لهذا الجمهور، ثم لجمهورٍ أوسعَ وأكثر حصافةً، بعد وقت قليل، أن أطنان ذلك الكلام الفارغ لم يكن لها أي داعٍ، وأن المسألة، ببساطةٍ، أن المشروع ينفتحُ على سؤال الحريات وقيم العدالة الاجتماعية، ويناهض الاستبداد، بكل صنوفِه، السياسية والدينية والاجتماعية، مع انتصارٍ ثابتٍ لفلسطين وشعبها، ولكل شعبٍ عربيٍّ في أشواقه للتحرّر من الظلم، وعلى رفض كل إرهابٍ وتسلّط وتجبّر. تبيّن هذا وغيره في موقع "العربي الجديد"، واستشعره القرّاء والزائرون والمتصفّحون، من يقفون على الضفة نفسها، وأيضا من يخاصمونها. وللحق، كانت المساحات المتاحة لحرية النقد والرأي والتعبير التي وجدتُها، وغيري من الزملاء، واسعةً إلى مدىً مفاجئ، وبدا الأمر اختبارا ليس هيّنا أن نستفيد من هذا السقف الطيب العالي، ومن خطوط حمرٍ أقلّ، ومن تقاليد أخرى في التعامل مع مسألة الحرية وفكرة المسؤولية، ودائما مع التشديد على مستوىً عالٍ من المهنيّة، فاستحقاقات هذا المنبر صحفيّة أولا وأخيرا، فلا يتسامح مع نقصٍ في متطلبات صفته الإعلامية وشروطها.
أكتب هذا هنا، مع التقدير لبعض صحفٍ عربية عملت فيها، وكتبت فيها، وتعاونت معها، ولكن المُختلف الذي أُريدَ أن يكون في الموقع الإلكتروني، العربي الجديد، تطلّب شيئا من الوقت للتعايش معه، واختبار الذات في العلاقة معه. وربما حضرت، في الأثناء، بعض الارتباكات والأخطاء، وهذه غالبا ما يتعثّر فيها واحدُنا في بدايات أي مرحلة عمل، فكيف إذا كان المشروع كله، جديدا، في فضاء عملٍ تأسّس للتو، ومع فريقٍ من الزملاء وفدوا إليه من خبراتٍ متنوّعة، واحتاج كثيرون منهم إلى أن يتعرّفوا جيدا إلى بعضهم، غير أن مسار هذا كله أخذ مسارِبه بكل وداعةٍ، وكانت اندفاعتُه الأولى موفّقةً تماما، ما يعود إلى الأجواء المريحة التي يسّرتها الإدارة، ماديا ومعنويا ولوجستيا، وإلى الروحية البالغة الإيجابية التي وجدنا أنفسَنا فيها، ونحن نشتغل، ونتحاوَر، ونجتهد، ونتفق ونختلف.
وإلى هذا الأمر، أي الأفق الرّحب الذي طالبْنا أنفسَنا به، وطولبنا بحسن استثماره، ونحن نعبُر في التجربة المهنية الإعلامية، الفكرية والسياسية أيضا، كان من بيننا من يدخل أول مرّة إلى تجربة العمل في موقع إلكتروني، إخباري وحيوي ومتنوّع، وكاتب هذه الأسطر منهم، الأمر الذي احتاج تدريبا متدرّجا أولا، وسريعا ثانيا، ليصير هذا الأمر متطلبّا ثانيا، شديد الإلحاح والضرورة، للبدء في العمل، والمضي فيه، ثم النجاح، وصولا إلى التميّز في غضون منافسةٍ ليست هيّنةً. لم تكن المسألة تخصيب يورانيوم، ولا امتحانا في نظريات أينشتاين، ثم صار الأداء الذي عرف الجمهور منتوجَه، مضمونا وشكلا، وبالتوظيفات البصرية والموجبات التحريرية لموقع إلكتروني يعرف العاملون فيه والقائمون عليه حدّة المنافسة، في المستويات كلها، في فضاء رقميٍّ شاسع. ومع الوفاء إيّاه لجمهور الصحافة الورقية، والتي تُصارع من أجل بقائها، التزم "العربي الجديد" فكرته الأساس، موقعا تصدُر عنه صحيفةٌ ورقية، فكان صدور الصحيفة في الثاني من سبتمبر/ أيلول 2014، فاحتفلت أسرة المشروع كله أمس بعيده الخامس.
للصحيفة لونٌ متمايزٌ عن الصحيفة الإخبارية التقليدية، صدورا عن استيعاب مستجدّات المشهد الراهن، من أهمها أن طوفانا من الأخبار (المصوّرة غالبا) تصل إلى هاتفك النقال من كل أركان الأرض في كل وقت.. جاءت "العربي الجديد" صحيفة تقارير وإضاءات، كأنها مجلةٌ ثقيلة، لكنها توازن في تنويع مادّتها، لتحاول تلبية مختلف الأمزجة والأذواق والميول، ودائما مع الاحتفاظ باتّزانها، ومن دون تهاونٍ مع خيارات مشروعها الخاص.. مع الحريات وضد الاستبداد. وفي الغضون، صرنا، نحن الوافدين من مواريث الصحافة الورقية التقليدية، في اختبارٍ يوميٍّ مع إيقاعٍ من العمل جديدٍ ومتجدّد، يغريك التحدّي فيه أن تحمي مزاجك من الرتابة والرطانة.. أظننا نجحنا.
358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".