كْلُويه دولوم.. أو لزوم الأوتو فيكشن

كْلُويه دولوم.. أو لزوم الأوتو فيكشن

17 سبتمبر 2019

كلويه دولوم .. سيرة عائلية مأساوية (1/9/2016/فرانس برس)

+ الخط -
"اسمي كلويه دولوم. أنا شخصية روائية. جسدي ولد في منطقة الإيفلين (فرنسا)، في 10 مارس 1973. أمضيت وقتا طويلا قبل أن أجلس فيه... لقد سكنته رسميا في الصيف، حين بلغت السادسة والعشرين... كانت أعصابي تالفةً وقلبي ممزّقا، وقد صرفت وقتا طويلا في رتقه". 
هكذا تعرّف الكاتبة الفرنسية بنفسها. بيد أن اسمها الحقيقي هو ناتالي دالين، وهي مولودة من أم فرنسيةٍ وأب لبنانيٍ حوّل اسم عائلته من عبدالله إلى دالين، ربما استرضاء لعائلة زوجته الفرنسية. أمضت كلويه طفولتها في بيروت خلال الحرب، قبل أن ترجع إلى باريس حيث تقيم. عام 1983، حين كانت بعدُ في العاشرة، شهدت فاجعةً عائليةً ستبقى ذكراها الأليمة تطاردها طوال حياتها، وتهيمن على كتبها ونتاجها. لقد شاهدت أباها يقتل والدتها، قبل أن يُقدم على الانتحار.
بعد الحادثة، انتقلت كلويه إلى العيش في بيت جدّيها، ومن ثم في بيت خالتها. تابعت علومها كي تصبح أستاذة كوالدتها، لكنها لم تُنه دراستها الجامعية، وبدأت الكتابة، وهي تعمل نادلة في المقاهي. عام 1999، أسّست مع مهدي بلحاج قاسم (زوجها الأول) مجلةً أدبيةً نشرت فيها ثلاث مقالات، وقعتها لأول مرة باسم كلويه دولوم. تقول إنها استعارت اسم كلويه من رواية لبوريس فيان، ودولوم من أحد أعمال أنتونان آرتو. عام ألفين، نشرت روايتها الأولى. وفي العام التالي، حازت جائزة ديسمبر عن روايتها الثانية التي كشفتها للقراء، "صرخة ساعة الرمل"، وجعلتها كاتبةً مهمةً من أدباء "الرواية الذاتية"، أي الأوتو فيكشن، الذين يروون قصصا عاشوها بأسلوب أدبي. عام 2012، نشرت مع دانييل شنايدرمان، وهو صحافي فرنسي، روايةً بعنوان "حيث ينادينا الدم"، دفاعا عن السجين السياسي، المناضل الشيوعي جورج إبراهيم عبدالله (مؤسس الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية المسجون في فرنسا منذ العام 1984)، شقيق والدها المنتحر...
برفضها اسمها الحقيقي، ترفض كلويه الرضوخ والانسحاق تحت أثر الصدمة التي شكّلها تاريخُ عائلتها المأسوي. وبمحاولتها التخلص من ماضيها عبر مواجهته في "صرخة ساعة الرمل" (رواية بلغت من حيث أسلوبها وبناء جملها وتلعثم قولها المعبّر عن عجز اللغة عن التعبير أحيانا، ذروة من ذرى الأعمال الأدبية الذاتية) تعيد دولوم تأسيس هوية أخرى لها، تُساعدها على استعادة امتلاك حياتها للبدء من جديد. لذا، وجب النظر ربما إلى اسمها الأدبي هذا على أنه مبادرة لإعادة تركيب النفس والجسد معا، أكثر منه مجرّد توقيعٍ باسم مستعار.
بعد نجاحها في كتابة روايتها العائلية، أو في سرد وقائع "مأساتها الأصلية"، سوف تكتشف كلويه أنها ليست من صلب أبيها اللبناني، فتقرّر دفن ناتالي نهائيا، من خلال "انتحار أناها" كما تقول، ومن خلال صنع "تابوت أدبي" لها، في روايتها المؤثرة جدا "في بيتي تحت الأرض" (2009). هكذا تعمّقت أكثر فأكثر في كتابة الأوتو فيكشن، وهي كما يعرّف عنها دوبروفسكي، مخترع التسمية، ليست مزيجا غامضا من الوقائع الحقيقية والتجميل الكتابي، بين السيرة الذاتية والرواية، وإنما موقف أخلاقي...
بعد واقعة قتل الأم ببندقية الأب، بقيت الصغيرة محبوسة اللسان عامين تقريبا. وعندما استعادت النطق وهي في الحادية عشرة من عمرها، قرّرت أن تقول ما تريد فعلا قوله. وحين أخبرتها جدّتها، بعد سنوات مديدة، أنها ليست من صلب أبيها، ولكن من صلب رجلٍ آخر، أصابتها موجة حزنٍ وغضب، وتحوّل الصراع إلى البقاء معركةً يومية، فكتبت "امرأةٌ لا أحد داخلها". وكان الدافع وراء كتابة هذا العمل مصيبة جديدة تمثّلت في انتحار عدد من قارئاتها واتهامها من إحدى الأمهات بأنها السبب.
وباختصار، كما تستعيد كلويه دولوم بناء هويتها واسمها وحياتها عبر الكتابة وعبر نضال نسوي وأدبي، نراها تستولي على الكتابة نفسها بتفكيكها وعجنها وقلبها وصهرها، منتجةً بذلك نصّا ذا تميز وخصوصية، يتبدّى بالتناوب، شعريا، حيّا، عدائيا، مؤثرا، شفيفا وذا أثر مديد.
أجل كلويه دولوم، هي لزوم الأوتو فيكشن، بالتضاد مع كتّابٍ ذاتيين لا لزوم لهم.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"