صفقة إلغاء التوكتوك

صفقة إلغاء التوكتوك

16 سبتمبر 2019
+ الخط -
بعد عقدين من دخوله مصر، انتفضت الحكومة المصرية ضد ظاهرة انتشار وسيلة النقل المسمّاة "التوكتوك"، وقرّرت إيقاف تشغيله في مناطق مصرية كثيرة، خصوصاً عواصم المحافظات والمدن الكبيرة. وتم إبلاغ مصانع عاملة في تجميع "التوكتوك" وقطع الغيار والإكسسوارات الخاصة به بوقف نشاطها. الظاهر من هذه القرارات أن الدولة المصرية تتجه إلى ضبط قطاع نقل الركاب وإصلاح حال المواصلات التي يستخدمها المصريون على نطاق واسع. إلى هنا، لا مشكلة على الإطلاق، فمصريون كثيرون يعانون بشدة من تدهور خدمات النقل وسوء أوضاع المركبات بمختلف أشكالها، فضلاً عن انفلات سلوكيات قائدي هذه المركبات، وغياب أي قواعد قانونية، أو حتى أخلاقية، تنظم العمل بها وعلاقة أصحابها ومُشغليها مع مستخدميها من المواطنين. 
ولكن المشكلة في أن القرار الحكومي لا يُحسن أوضاع قطاع النقل الجماعي، فهو يستهدف، فقط، التوكتوك دون غيره من وسائل النقل الجماعي التي تشترك في تردّي مستواها وتكرار كوارثها وسوء أخلاق عاملين كثيرين عليها. وبالنسبة للتوكتوك تحديداً، لا تقدّم الحكومة المصرية بديلاً مقبولاً، سواء من ناحية كفاءة الخدمة ومستواها، أو من ناحية المقابل المالي. بل تُحدث مشكلة جديدة، اجتماعية وأمنية، إذ تحيل ملايين العاملين في هذه "التكاتك" إلى قطاع العاطلين عن العمل (5 ملايين حسب أرقام رسمية)، ليصير هؤلاء قنابل قابلة للانفجار، ومصدر خطورة مؤكّدة أمنياً واجتماعياً، فأي منهم لن يقبل تشريد أسرته، أو يستسيغ عجزه عن الإنفاق، ولو على نفسه فقط. والبديل الأسهل أمامهم الخروج على القانون، والتحول إلى قاطعي طريق، والسرقة بمختلف أشكالها، خصوصا أن كثيرين منهم يتعاطون المخدّرات، ولديهم قابلية مسبقة للانحراف، لا تصمد أمامها موانع هشة من أخلاق فاسدة أو تدين ظاهري أو مستوى تعليم متدنٍّ.
تستند الحجة الرسمية في التخلص من "التوكتوك" إلى سلبياتٍ كثيرةٍ ترتبت على انتشارها في شوارع مصر وأزقتها. بدءاً من عدم وجود سجلات موثقة للغالبية العظمى منها، مروراً باختناق حركة المرور في الأحياء الشعبية والعشوائية، وما يترتب عليها من حوادث وخسائر، إلى جرائم الخطف والاغتصاب والسرقة بالإكراه التي وجدت في "التكاتك" وسيلة نقل سريعة ومراوغة وسهلة التخفي.
هذا كله صحيح، لكن الحل الحكومي باستبدال سيارات صغيرة (ميني فان) بالتوكتوك لا يتعامل مع تلك المشكلات، فتلك السيارات لا تختلف جوهرياً عن التوكتوك، سوى في ثمنها الباهظ الذي يصل إلى ثلاثة أضعاف ثمن التوكتوك. وهو ما يعني تضاعف أعباء الانتقال على المواطن المصري بالقدر ذاته، فضلاً عن مصروفات التشغيل والصيانة التي ستزيد الأعباء على كاهل المواطن. أما المخاطر الحقيقية المرتبطة باستخدام التوكتوك، فلن تعالجها السيارة، فالعشوائيات الأخلاقية والعمرانية التي أوجدت التوكتوك لا تزال على حالها. لا أخلاق السائقين تغيرت، ولا الممرات والشوارع الضيقة اتسعت.
السؤال الذي لم تجب عنه الحكومة المصرية، كيف ولماذا دخل التوكتوك إلى مصر؟ ولمَ تم التغاضي عنه وعن مشكلاته عقديْن؟ كان المفترض أن تبحث السلطات المصرية عن أسباب لجوء المواطن المصري إلى وسيلة نقل غير آدمية، ولا آمنة، طوال هذه السنوات. وأن تعمل على تلافي تلك الأسباب، بتوفير وسائل نقل آمنة ومتحضرة ومحدودة التكلفة. ولكن الحكومات المصرية المتعاقبة ترتكب الأخطاء نفسها بالمهارة نفسها، تترك المواطن تحت وطأة مشكلات حياتية لا حل حكومياً لها، فيلجأ إلى وسائل بدائية وحلول عشوائية. ثم تعود الحكومة، لا لتعالج المشكلات التي أوجدتها بنفسها، وإنما لتستفيد منها، فالعائد الحقيقي من استبدال السيارات بالتكاتك سيكون مالياً لا أكثر، فبالتأكيد هناك صفقة ضخمة منتظرة، لتوريد السيارات الصغيرة بديلة التوكتوك في شوارع مصر. ولا يتبقى سوى معرفة إلى أين ستؤول العوائد المالية من هذه الصفقة.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.