رقعة شطرنج

رقعة شطرنج

16 سبتمبر 2019
+ الخط -
النهاية وشيكة على ما يبدو، وقد يستطيع المحلل متوسط الفكر أن يتوقع ما سيحصل بعد انتهاء جولات السياسة وصولات المعارك. ولكن أكثر ما يزعج في هذا المشهد، هو تحول أصحاب المبادرة إلى بيادق وجنود يخدمون بقضيتهم مطامح وتوجسات دولية إقليمية.
لم تكن الثورة بمنأى عن ذلك، فقد بدأ الضعف منذ عام 2012، عشية تبييض سجون بشار الأسد في سورية ونوري المالكي في العراق من الأصوليين والجهاديين، إضافة إلى ثلة من معتدلي الفكر للتغطية والتمويه ولتمكين صراع محتوم. من هنا بدأ العد الرقمي لما آلت إليه الأوضاع المأساوية لحواضر عربية عريقة في سورية والعراق واليمن وليبيا، وليس كما يدّعي بعضهم أن محرّك هذه الثورات هو نفسه الذي استطاع ركوبها، فهذا محض افتراء لأي مطلع على الأوضاع الحقوقية البائسة للمواطن العربي أو الأقليات التي تعيش في هذا الموطن، وهو ما دفع للقيام ضد الأنظمة.
الصراع الذي نتج هو لتوجيه مطالب تلك الثورات أمام الأنظمة على مطالب أخرى، عبر استهداف البنية، وقد أخذ هذا الاستهداف أشكالاً كثيرة مزّقت بنية اجتماعية متماسكة، حيث فرّق الصراع الإيديولوجي المريض بنية الرموز الاجتماعية، والتي أكملت عملية إضعافها تلك التنظيمات بعد استهداف الأنظمة السلطوية لها لعقود، وقد أذهبت هذه العملية تأثير مفهوم الدولة العميقة في المجتمع في مقابل أحكام العشيرة وأعرافها، وإضعاف القانون أمام سطوة العرف التقليدي، والقومية الضيقة مكان القومية المنفتحة على الأمة، كما تمكنت إيديولوجيا متطرّفة بدلاً عن دين حنيف، بدأ مع الثورة في شبابها، ثم ما لبث أن اجتث على حساب شروره قتلاً وتدميراً لما تبقى من هذه البنية. ثمة أمر مهم، يجب الالتفات إليه، وهو الأرضية الثقافية الضحلة والموروث الخاطئ لفهم الهوية والعقد الاجتماعي بين مختلفين في دولة، وقد تكرس كل ذلك نتيجة فرض الأنظمة الشمولية على الحالة الاجتماعية.
يحتفظ الأكراد في سورية والعراق بذاكرة عنفية كبيرة ومذابح تصل في القانون الدولي إلى جرائم حرب. في المقابل يكتنف العقل العربي والتركي مخاوف كبيرة من استخدام أجنحة متطرفة لدى هذه الأقليات في صراع وجودي كما حصل بالضبط مع استخدام حزب العمال الكردستاني في صراع مصالح بين روسيا وأميركا، مستهدفاً مخاوفهم مع اقتراب إنهاء معاهدات دولية أنهكت التنمية التركية طويلاً.
أما العرب، فمخاوفهم تتمثل في سلخ طموحات الربيع العربي عبر استخدام الأجنحة الكردية في خلط أوراق الربيع العربي، وهو ما حدث. وللتذكير، لم يحرّك هذه الأجنحة لدى الأكراد سوى الأمل والطموح لدولة روجافا (كردستان) ثم ما لبث الأمر أن تلاشى إلى أحلام. ولعل هناك تشابهاً لدى أجنحة عربية سنية في طموح مماثل في دولة إسلامية، ألهم شباباً عرباً كثيرين متسرعين للحاق بتلك الأجنحة، والتي استقلتها مخابرات عالمية، ثم ما لبث أن تحول بذل الروح والنفس إلى استخدامها في حرق مطالب أخرى في الثورات.
ولعل المعادل الأقوى لهذه التنظيمات ليس إيديولوجيا قومية، بل إيديولوجيا شيعية، حركتها نبؤات دولة المهدي! ثم ظهرت الحقيقة الأميركية في تمزيق وتهجير السنة عبر الصراعات مع المعادل القومي الكردي المدعوم أميركياً والمعادل الأيديولوجي لتلك الجماعات المدعومة روسياً. والنتيجة إنشاء صراعات قادمة كردية عربية تركية إيرانية، وما يحتوي هذه الدول من مذاهب وملل وأعراق وإيقاف تنمية شاملة لهذه الدول أمام تهديدها للكيان الصهيوني قبل عقد.
لقد استطاعت تلك القوى تدوير طموحات الربيع العربي، وإنهاك حالة الثورات، إضافة إلى تصفير المطالب من عامة شاملة واقعية إلى رجعية منغلقة نحو إيديولوجية وقومية. واللافت أن كثيراً من مشكلات تلك البلاد ما زال يؤمن بقوته وأحقيته في رقعة شطرنج، انتقل إليها على حساب رقعته الجغرافية والوطنية. أما الجانب الآخر، فيعتقد أنه المنتصر وغيره المهزوم، ولم يعرف أن رقعته الجغرافية يديرها لاعبون، وليس هو نفسه.
A9672062-FF7F-4D2B-BA41-A484E21E2A12
A9672062-FF7F-4D2B-BA41-A484E21E2A12
جعفر طنطاوي (سورية)
جعفر طنطاوي (سورية)