انتخابات تونس والانتقال الديمقراطي

انتخابات تونس والانتقال الديمقراطي

16 سبتمبر 2019
+ الخط -
يُجمع منظّرو الانتقال الديمقراطي، في تعريفهم له، على أنه "مجمل العمليات والتفاعلات المرتبطة بالانتقال أو التحوّل من صيغة نظام حكم غير ديمقراطي إلى صيغة نظام حكم ديمقراطي". ويدل الانتقال الديمقراطي، من الناحية النظرية، على مرحلةٍ وسيطةٍ يقع خلالها تفكيك النظام القديم وبناء نظام ديمقراطي جديد. وتشمل عادة عمليات هذا الانتقال عناصر النظام السياسي، مثل البنيات الدستورية والقانونية والمؤسسات والمنظومة السياسية، ونمط (أو أنماط) مشاركة المواطنين في هذه المنظومة. وقد تشهد مرحلة الانتقال إلى ديمقراطية ناشئة وليدة صراعات ومساومات وعمليات تفاوض بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين.
تاريخياً، يمكن التوقف عند محطات عديدة، مثلت نماذج مرجعية لهذا الانتقال الديمقراطي، بينها تجربة اليونان في عام 1974 التي انتقل فيها هذا البلد من دكتاتورية العسكر ونهاية مملكة اليونان إلى الجمهورية اليونانية الثالثة. والانتقال الديمقراطي في إسبانيا في 1975 بسقوط نظام فرانكو، وعودة النظام الملكي. وكذلك الانتقال الديمقراطي الشهير في تشيلي في 1990 الذي أنهى نظام بينوشيه. بالإضافة إلى ما حدث في أوروغواي في 1985 وفي جنوب أفريقيا 1993، وصولاً إلى الثورة التونسية في يناير/ كانون الثاني 2011 التي انتقلت فيها السلطة من النظام الدكتاتوري لزين العابدين بن علي إلى دولة تؤسس لديمقراطية ناشئة يضمنها الدستور ويعلوها القانون.
واستحضاراً لأدبيات الثورة التونسية في مختلف مساراتها، وخصوصاً في بداياتها، يمكن اعتبار نهاية المرحلة الأولى في المسار الثوري التونسي هي تنظيم انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، إذ دخلت البلاد بذلك، مع ثورتها الناشئة، مرحلة ثانية، عنوانها الرئيسي تحديد عمليات التأسيس لتشمل الدستور الجديد والنظام السياسي البديل ومجمل القوانين والمؤسسات.. وقد تميزت هذه الفترة أساساً بالبداية الفعلية لمسارات الانتقال الديمقراطي، مع طفرة في عدد الأحزاب السياسية الجديدة، وبروز غير متوقع لقوى المجتمع المدني وتشكيلاته، مع ما رافق ذلك من انفجار للإعلام غير الرسمي، وتعدّد المؤسسات الإعلامية الخاصة، بمختلف أشكالها ومحاملها.
واستجابة للنزوع الجماهيري العام لجعلها محطة لطي صفحة الماضي، والقطع مع النظام القديم 
وأساليبه، فقد تميزت الانتخابات الأولى، في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، ولأول مرة، بأنها نظمتها هيئة مستقلة، عوضاً عن وزارة الداخلية، وهذا منجز على قدر كبير من الأهمية في تلك الفترة. كذلك ظهر لأول مرة دور الإعلام الخاص في الحياة السياسية، ما جعله قوة مؤثرة في نتائج انتخابات المجلس الوطني التأسيسي.
وعلى الرغم من ذلك، شهدت تلك الانتخابات عزوفاً ملحوظاً من الشباب خصوصاً، ما رجّح الكفّة لصالح التيار الإسلامي ومحافظيه، ليفوز في الانتخابات، ويشكل مع حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يرأسه المنصف المرزوقي والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات برئاسة مصطفى بن جعفر الأغلبية البرلمانية، وقد غاب اليسار والثوريون والشباب الذين صنعوا الثورة عن المشهد.. ومن هنا تحديداً، بدأ الصراع يحتدّ بين ما سمي المسار الثوري وما يعرف بمسار الانتقال الديمقراطي. انخرطت في هذا الصراع الأغلبية الساحقة من القوى المكونة للطبقة الوسطى، من أحزاب سياسية حداثية ومنظمات مجتمع مدني ونقابات وإعلام ومستقلين. كذلك لعبت المرأة دوراً مهماً في ذلك كله بحضورها في الشارع والساحات العامة وبلاتوهات وسائل الإعلام. لقد شهدت هذه المرحلة تنامياً ملحوظاً، لتشكل دوراً أساسياً للمجتمع المدني في بلورة منظومة الانتقال الديمقراطي. ويمكن اعتبار مرحلة العبور من انتخابات 2011 إلى انتخابات 2014 قد شابتها صراعاتٌ حادّة بين التيارات اليمينية الإسلامية والمحافظة والتيارات الحداثية التقدّمية، تميزت بالاغتيالات السياسية وتصاعد الإرهاب، ما عجّل بذهاب منظومة الترويكا، وقيام حكومة تكنوقراط برئاسة المهدي جمعة، عقب الحوار الوطني الذي ضم كل الأحزاب، برعايةٍ كبرى من المنظمات الوطنية التونسية. وكانت المهمة الأساسية لحكومة جمعة تنظيم الانتخابات التي ستعيد التوازن الاجتماعي السياسي بين المحافظين والتحديثيين في السلطة. وقد عكست نتائج انتخابات 2014 هذا التوافق الذي قاده الشيخان، الرئيس الباجي قايد السبسي وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، وبالتالي بين حركتي النهضة (الإسلامية) ونداء تونس التي جمعت طيفاً من التقدّميين والدستوريين واليساريين...
واستمراراً لنهج الانتقال الديمقراطي، ظهرت هيئات مستقلة مثّلت مأسسة عملية الانتقال 
الديمقراطي، من خلال دورها الفاعل في تعديل الحياة السياسية الجديدة، منها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والهيئة المستقلة للإعلام السمعي البصري والهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، والشروع في الحوار حول قيام المحكمة الدستورية، علاوة على تعزيز دور الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. والواقع أن التوافق الوطني بين الشيخين السبسي والغنوشي قد أعطى زخماً واضحاً لعملية المأسسة، وذلك علاوة على دور المجتمع المدني، هذا داخلياً. أما العوامل الخارجية، فإننا نجد فاعلين أكثر تأثيراً في تكريس هذا المسار على غرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وقطر وتركيا.
وقد جاءت أحداث مهمة خلال 2019 لتؤكد جدوى المسار الانتقالي الذي انخرطت فيه تونس، منها الانتقال السلس للسلطة يوم وفاة الرئيس الباجي قايد السبسي فجأة، في 25 يوليو/ تموز 2019، قبيل انقضاء عهدته الرئاسية، والتي اقتضت تنظيم انتخابات سابقة لأوانها، التزاماً بمقتضيات الدستور، وهذه علامة أخرى على تعزيز مسار التحول الديمقراطي المنشود. وقد تميزت هذه الانتخابات التي سبقتها الحملات الانتخابية، عربياً وأفريقياً، باعتماد المناظرات التلفزيونية لأول مرة، ودارت في أجواء لافتة من الهدوء واحترام الرأي الآخر وانضباط المترشحين.
ويمكن القول أخيراً إن تونس، بقطع النظر عن نتائج هذه الانتخابات والشخصية التي ستفوز بها، قد كسبت رهان التحول الديمقراطي، على الرغم من التحديات والإكراهات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، والأوضاع المضطربة في الجارتين، الشرقية والغربية، وبذلك تستحق امتياز الاستثناء العربي والإسلامي، وتحقيق الريادة في محيطها.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي