في مقاومة الاسترهاب

في مقاومة الاسترهاب

15 سبتمبر 2019
+ الخط -
ارتبط مصطلح الاسترهاب في القرآن الكريم بالتخويف غير الحقيقي، المرتبط بالسحر، قال تعالى في سورة الأعراف "سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم"، (الآية 116). ومن ذلك نجد أن أصل الاسترهاب محاولة الإرهاب وطلب وقوعه بأسباب مصطنعة حسّية وفكرية، لغرض واحد، هو الإذعان والتسليم للمُسترهِب، غير أن الواقع الحقيقي مخالف لذلك؛ إذ إن المسترهب (بكسر الهاء) لا يملك قوة التأثير الحقيقية، لا من الناحية الفعلية على أرض الواقع ولا حتى الفكرية، ولكنه يملك "الصنعة" التي يتحقق بها الاسترهاب، ومنها صنعة السحر التي تكون من الخيال، بصرف إدراك حقيقة ما فعل بالتمويه والتخييل؛ فيوظف الخيال أو التمويه في اقتياد الأتباع وجعلهم رهينة له. وهذا ما يستعمل الآن بآليات وصناعات متجددة في اقتياد الشعوب والدول، كما هو الشأن في "صنعة الإعلام" في وقتنا الحاضر، والتي تكون، عادة، مقترنة بأدواتها الفكرية ومصطلحاتها التخويفية التي تتجدّد حسب الحال والمآل. ويبقى الغرض واحدا هو إذلال الشعوب والدول واقتيادها، والتحكّم فيها سياسياً واقتصادياً، ولا مبالغة في القول فكرياً. 
ما نراه اليوم من اختلاق الحوادث والأحداث "الحقيقية" أو "التخويفية" في الدول التي يُراد لها أن تسير على نسق معين مرسوم لها مسبقاً، خصوصا التي استعادت، أو تحاول استعادة بعض من حريتها، أمثال دول الثورات العربية، خير دليل على ذلك، وأقصد بالحوادث والأحداث "الحقيقية" هنا الفعل الواقع حقيقة من قتل وتدمير وما في حكمهما. أما الأحداث "التخويفية" فأقصد بها الصناعة الإعلامية المرتبطة بالدوائر الاستخباراتية التي تحقق مصالح الدول المالكة لها، عن طريق استرهاب الشعوب إعلامياً لفرض أمر واقع خطط له مسبقاً، وخير شاهد على ذلك ما يمثّله إعلام الثورات المضادة التي يُصنع فيه الاسترهاب التخويفي بكل أشكاله، حيث 
تراهم يسوقون تهمة الإرهاب لكل مخالفٍ لهم تارة، ويصنعون انقلاباً تلفزيونياً عن طريق وكلائهم في هذه الدولة أو تلك تارة أخرى. كما ينقلون أخبارا مزيفة عن الوضع الداخلي في البلدان التي لا تسير الأمور السياسية والأحداث الواقعية فيها تبعاً لهواهم ومخططاتهم، وذلك كله بغرض اقتياد الشعوب الثائرة وإرجاعها إلى حظيرة الطاعة. وكذلك لتكون النتيجة، بعدها، والبديل والحامي من تلك الأحداث التخويفية، غير الحقيقية المصطنعة، هو المسترهب الصانع الحقيقي لها. وهذا ما يجعلنا نقف عند الثورات العربية، ومحاولة استرهابها بطرق مختلفة من الثورات المضادّة والداعمين لها، من أجل اقتيادها والتحكّم فيها وفي ثرواتها، حيث استعمل التخويف في الثورات العربية ووظف إعلامياً في كل منعطفات الثورة وتحرّكاتها، مقترناً بمصطلحات تخويفية أخرى، ليس أقلها "محاربة الإرهاب"؛ لأن الإرهاب محارب عالمياً، قبل أن يكون داخلياً، فيتولد من إطلاق هذا المصطلح خوف من الوقوع تحت دائرة الإرهاب للإفراد والشعوب في تلك الدولة؛ بل وحتى الكيانات السياسية التي تناصر الثورات وتعادي أعداءها، فينتج عن ذلك "تعطيل" أو حتى انسحاب الأفراد وتلك الكيانات من الساحات السياسية للدولة، ما يتيح للثورة المضادة التفرّد بمفاصل الدولة، تفعل فيها ما تشاء، حتى تستولي على الحكم، وتُرجع الشعوب إلى دائرة الاستبداد والطغيان التي ثارت ضدها.
وبذلك ثمّة ضرورة الاهتمام بالتوعية المجتمعية، وترسيخ مبادئ الثورة إعلامياً وفكرياً، كما تجب محاربة المصطلحات التخويفية غير الحقيقية، بالفعل المناقض لها في العمل السياسي، بل وحتى الاجتماعي. ومن جهة أخرى، على الكيانات السياسية المناهضة للثورات المضادة عدم الرجوع إلى الخلف، بجعل الطريق مفتوحاً للثورات المضادة، بل عليها الدفاع عن الثورة بالأسس العلمية والسياسية الصحيحة التي لا يمكن أن تقترن المصطلحات التخويفية المختلفة بها، وذلك لمواجهة حالة الاسترهاب التي تصنعها الثورات المضادة، والتي تجعل الشعوب رهينةً للخنوع والاستسلام أمام المصطلحات التي لا تعدو كونها مصطلحاتٍ استرهابية، وليست حقيقة إلا فيما قل ونذر.
وفي الجملة، ليس للاسترهاب غرض إلا اقتياد الشعوب والتحكّم في مقدّراتها ومكتسباتها، بل وجعلها تخضع وتَقبلُ بالمسترهِب، بكسر الهاء، منقذا من حالة الخوف المستمرة التي يصنعها فيها. وبالتالي، لا تنجح مقاومة الاسترهاب المسلط على الشعوب في وقتنا الحالي إلا بالتوعية المجتمعية والمؤسسية، وبالدفاع عن الثوابت والتفريق بينها وبين غيرها من الشمّاعات التخويفية الأخرى التي لا يمكن للشعوب أن تتقلد أمور بلادها ومكتسباتها معها.