الفقمة والعزّة بالسُّمنة

الفقمة والعزّة بالسُّمنة

15 سبتمبر 2019
+ الخط -
لا لوم على الفقمة، إن اعتقدت أن سُمنتها المفرطة تمنحها الحق بالبلادة المطلقة، والاضطجاع الطويل على الشواطئ، أو أن تلك السُّمنة كفيلةٌ بصدّ المفترسات عنها، على الرغم من أن السّمنة ذاتها هي ما يجتذب الدببة القطبية والحيتان البيضاء إلى لحومها وشحومها، وهو غباء تاريخيّ مزمن، لم تتمكّن الفقمة من تجاوزه، على الرغم من الأثمان الفادحة التي دفعتها بين الأنياب. 
عمومًا، ذلك شأن الفقمات عبر التاريخ، ولكن أن تأخذ الفقمة العزّة بالسّمنة المفرطة، إلى حدّ التطاول على بني جنسها، ووصف دفاع زميلاتها عن أنفسهن، بأنه "اعتداء" على حقوق الدببة والحيتان، فذلك يعني التحوّل من مرحلة الغباء المفرط إلى مرحلة الخيانة السافرة، والتي تقتضي ردًّا بحجم سمنتها ذاته.
يقتضي التوضيح، أيضًا، أن أؤكد بشدة أنني أتحدّث عن فقمةٍ حقيقية، لا متخيّلة؛ إذ لا موضع للمجاز في مثل هذه اللحظات الدقيقة. والأدعى أن لا تذهب الظنون إلى وزير خارجية دولةٍ عربيةٍ أبدى موقف التضامن ذاته مع الدببة، في تغريدةٍ له على "تويتر"؛ ففي الحالة العربية الراهنة التي أصبحت فيها "الخيانة وجهة نظر"، يحق لهذا الوزير أن يبدي موقفًا كهذا من دون أن يرفّ له جفن، خصوصًا وأنه كان قد أدلى بتغريداتٍ مماثلة، لا تقلّ بشاعة عن الأخيرة، فهو، أيضًا، من عدّ الضربات الإسرائيلية في العمق السوري والعراقي واللبناني دفاعًا مبررًا عن النفس. ولا لوم عليه، لأن المسألة أصبح فيها أزيد من قولين وثلاثة، وألف ربما، ما دمنا نعيش زمن ابن سلمان وابن نهيان، حيث المبادئ قابلةٌ للبتر والتقطيع، كالأجساد العربية تمامًا، وكالدول العربية إن شئنا التزيّد.
والحال أنني أشعر بالخجل الفادح، حين يجري الحديث عن البحرين، حصرًا، لأنها بلد قاسم حداد ومحمد جابر الأنصاري وعلوي الهاشمي، ومفكرين وأدباء وإعلاميين يُشار إليهم بالبنان، فضلًا عن أن البحرين تكاد تكون الدول الخليجية الوحيدة، إلى جانب الكويت بالطبع، التي حضر في تاريخها حراك سياسي وقوميّ لافت. وهنا أتساءل عن مبلغ الحنق الذي تشعر به هذه النخبة المميزة، وهي تستمع إلى تصريحات وزير خارجيتها المُخجلة، أو حين ترى بأم عينيها كيف يدنّس تراب بلدها بوفود زائرين صهاينة؟
وحتى لا يأخذنا الشطط بعيدًا عمّا بدأناه، سنستأنف الحديث عن الطفرة التي أصابت عالم الفقمات "الحقيقية"، وعن تحوّلاتها المباغتة؛ إذ تروي حكاية أخرى أن الفقمة "الخائنة" إياها استهوتها أشعار حسان بن ثابت، خصوصًا بيته: لا بأس بالقوم من طولٍ ومن قصر/ أجسام البغال وأحلام العصافير.
ويقال إن ولعها بهذا البيت بلغ بها حدًّا زيّن لها الاعتقاد أن سُمنتها المفرطة لم تخلق عبثًا، بل تصلح أن تكون معادلًا موضوعيًّا لضآلة حجم يابستها التي تعيش عليها. ولا بأس، في مثل هذه الحالة، أن تنصّب نفسها ناطقًا رسميًّا باسم أمّة بأكملها، ما دامت تعتقد أن سُمنتها تتيح لها أن تتخذ أي موقفٍ يحلو لها ضد أمم الفقمات، تسيّرها في ذلك بالطبع "أجساد البغال وأحلام العصافير" كما أسلفنا.
أما خاتمة الحكاية فتقول إن طيش تلك الفقمة على سطح أحلامها الحمقاء زيّن لها أنها، باتخاذها مثل تلك المواقف الرعناء، ستنأى بنفسها عن أنياب الدبب والحيتان؛ على قاعدة أنها مواقف تشبع شهوات المفترسين بشحمها ولحمها ومواردها، غير أنها، كعادتها، لم تعتبر على الرغم من العديد من تجارب غبائها المتكرّر، أو من تجارب فقماتٍ أخرى دفعت من لحومها ثمن سذاجتها، ذلك أنها تتعامل مع دببةٍ وحيتانٍ ماكرة، لا تؤجّل شهوة الالتهام، إلا حين تتأكد أن فرائسها من الفقمات ستزداد سُمنةً وبلادة، وذلك أوانٌ لم يعد بعيدًا.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.