محمد علي الثاني

محمد علي الثاني

14 سبتمبر 2019
+ الخط -
حين يفتح أي مصري اليوم موقع غوغل ليكتب "محمد علي"، لن يظهر على رأس النتائج مؤسس الدولة المصرية الحديثة، محمد علي باشا، ولا الملاكم الأميركي محمد علي كلاي، بل سيظهر المقاول محمد علي. على مدار أسبوعين، لا حديث في مصر إلا عن الممثل والمقاول الذي يقول إنه يواجه منفردا شخص الرئيس عبدالفتاح السيسي، ويكرّر مطالبته بأن يلعب معه بنزاهة "الغيم فير". بوعي أو بغير وعي، استخدم علي نقاط قوة عديدة في طرحه، بدءاً من الشكل البصري المميز نفسه، فالرجل ذو الجسد الرياضي والملابس الأنيقة تارة يشعل سيجارته، وتارّة يتناول الطعام، وتارّة يعرض مقطعاً مصوراً على هاتفه، وتارّة يشير إلى البحر خلفه، فضلا عن استغلال تعبيرات وجهه وعينيه كما يليق بمن عمل ممثلا. 
من حيث الأسلوب، يتحدث محمد علي بأسلوب طلقٍ وجذّاب (على الرغم من أنه لا يخلو من تكرار وإطالة). ينتقل بين النبرات الجادّة والساخرة والغاضبة. أحيانا يستخدم اللهجة النوبية أو الصعيدية، أحيانا يقلّد أصوات وطريقة حديث السادة اللواءات الذين تعامل معهم. يستخدم علي ألفاظاً وإشارات بالغة الإهانة الشخصية، لشخص رئيس الجمهورية، وهو أسلوبٌ يذكّرنا بالصدمة التي أحدثها الساسة الشعبويون اليمينيون، مثل ترامب، بالخروج على أعراف الخطاب السياسي الدارج. وفي كل مرّة، هناك تعبير جديد أو "إيفيه" جديد يعلق بالأذن، ويتحول إلى مثار تندّر ونقاش رواد مواقع التواصل.
من حيث المحتوى، يقدم محمد علي خلطة مميزة، تدمج المعلومات الجديدة التي يقدّم قليلاً منها في كل مرة مثل تفاصيل القصور الرئاسية، أو أسماء ووقائع كان شاهداً عليها، مع الآراء السياسية التي تتناول، بأسلوب شعبي، عبارات شهيرة قالها عبد الفتاح السيسي ولو قبل سنوات، كما تتناول قضايا عامة أقدم من العصر الحالي، كتولي قيادات الجيش مناصب مدنية بعد خروجهم من الخدمة، أو سوء حالة المدارس الحكومية، أو أوضاع الفقراء، ولا يكفّ عن العزف على أوتار شديدة الحساسية في النفسية المصرية.
وذلك كله على خلفية من تكرار الحديث عن قصة حياته وأسرته. وهو هنا يقدم صورة لشخصية درامية مثالية. الشاب البسيط الذي لم يتم تعليمه، لكنه بسرعة وصل إلى قمة الثراء، لكنه لم ينس أصله، وقد انتزع أموالا من بين أنياب "الحكومة" وهرب ليفضح شركاءه السابقين. وهنا تتراجع مساحة التقييم الأخلاقي أمام المخيلة الشعبية التي طالما احتفت بقصص اللصوص النبلاء محليا وعالميا، من روبين هود وحتى علي الزيبق. كتب مصريون تعليقا على محمد علي "البيت اللي مفيهوش صايع حقه ضايع".
يتطور الخطاب السياسي لمحمد علي تدريجيا. في مقاطعه الأخيرة، أصبح يخاطب المصريين قائلاً إنه لن يحارب السيسي وحده، وإنه من الوارد أن يستمر بعض الوقت ثم يُقتل أو يتم إسكاته، فماذا أنتم فاعلون؟ لكنه هنا لا يطالب بوضوح بفعل معيّن، بل يشدّد أن على كل المصريين أن يسألوا الرئيس حول ما يطرحه.
ومن اللافت أن هذا المشهد كله انبعث من العدم، لم يكن باستطاعة أي محلل سياسي أن يتنبأ بأننا سنشهد فجأة قفزة ضخمة في خطاب المعارضة المصرية وتأثيرها بفعل مقاول منشق. وقد سبق للمعارضين المصريين تجربة الأمل الزائف في أثناء أحداث سابقة، مثل المظاهرات الاحتجاجية على تسليم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، أو ترشح الفريق سامي عنان لانتخابات الرئاسة. ولذلك لا داعي للمبالغة في النتائج العاجلة المتوقعة. وفي المقابل، عدم التهوين من الإضافة الهائلة التي مثّلها محمد علي، والارتباك الذي سبّبه للفئة الحاكمة، وإدراك أن باب المفاجآت في مصر يبقى متاحاً دائماً، بأحداث خارجة عن أي سياقٍ يمكن التنبؤ به. وعلى القوى الديمقراطية أن تسعى إلى تنظيم ما تبقى من قوتها ومراكمته، انتظارا للحظةٍ مواتيةٍ قد تأتي بلا موعد.