في جوهر الأزمة البريطانية

في جوهر الأزمة البريطانية

02 سبتمبر 2019
+ الخط -
تعيش بريطانيا هذه الأيام على وقع أزمة قرار رئيس حكومتها، بوريس جونسون، تعطيل عمل البرلمان خمسة أسابيع خلال الشهرين المتبقيين على موعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (31 أكتوبر/ تشرين الأول 2019). وجرت التقاليد البريطانية على تعطيل عمل البرلمان عدة أيام عند بداية موسمه الجديد. وهي الحجة التي استخدمها رئيس الوزراء لتعطيل البرلمان خمسة أسابيع. ولذلك اعتبر قادة المعارضة قرار جونسون تعطيل البرلمان هذه المدة الطويلة وغير المسبوقة تعسفاً في استخدام صلاحياته، بغرض تعطيل عمل البرلمان، ومن ثم تعطيل الديمقراطية البريطانية نفسها، لتمرير أجندته المتشدّدة في التعامل مع ملف الخروج من الاتحاد الأوروبي. ومنع البرلمان من القيام بدوره الرقابي والحيلولة دون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاقية، كما هدّد جونسون.
ويرى هؤلاء أن الخروج بلا اتفاقية سيمثل زلزالاً اقتصادياً لا يعرف أحد تبعاته، سيؤثر بالسلب على تدفق البضائع والحركة بين دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا شهوراً، وعلى مختلف قطاعات الاقتصاد البريطاني. كما سيهدد كيان الاتحاد البريطاني نفسه، وخصوصاً في ما يتعلق بعلاقة بريطانيا بأيرلندا الشمالية، إذ يرى دُعاة انفصال أيرلندا الشمالية عن بريطانيا الخروج بلا اتفاقية تهديداً بعودة الحدود الصلبة بين شطري أيرلندا. وهي الحدود التي حاربوها عقوداً حتى توصلوا إلى اتفاقية سلام مع البريطانيين في 1998.
ويُعدّ وضع أيرلندا الشمالية في اتفاقية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من أهم القضايا 
العصيّة على الحل، لأن مسودة الاتفاقات التي أعدتها رئيسة الوزراء البريطانية المستقيلة، تيريزا ماي، عجزت عن إيجاد حل لطبيعة الحدود التي يمكن أن تفصل شطري أيرلندا في حالة الخروج من الاتحاد الأوروبي. ولم يقدم جونسون بديلاً حتى الآن. لذا يرى متابعون أن جونسون لا ينوي الخروج من دون اتفاقية، وأنه يهدف، بتصرّفاته المختلفة، إلى الضغط على الاتحاد الأوروبي لتقديم بعض التنازلات (غير المحدّدة حتى الآن) في موضوع أيرلندا الشمالية بالذات.
ويعود البرلمان البريطاني إلى العمل من عطلته الصيفية غداً الثلاثاء (3 سبتمبر/ أيلول)، ولن يجد المعارضون سوى أيام معدودة لمواجهة قرار جونسون تعليق عمل المجلس بداية من الأسبوع التالي. ولو عجزوا عن مواجهة جونسون، فلن يجد أمامهم وقتاً كثيراً للتصرّف بعد العودة من التعطيل الإجباري (في 14 أكتوبر)، فلن يتبقى سوى ثلاثة أسابيع حاسمة، أو أقل على انقضاء موعد الخروج من الاتحاد الأوروبي.
خلال الأيام الماضية، ظهرت عدة محاولات أو مشاريع لتعطيل جونسون، إذ اتخذ بعض السياسيين مساراً قضائياً أمام المحاكم، للطعن في دستورية قرار تعطيل البرلمان. ودعا آخرون إلى التظاهر بكثافة عبر بريطانيا. وتتبقى أمام النواب المعارضين محاولتان لتعطيل جونسون: تمرير قانون يفرض عليه عدم الخروج من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاق، وطرح الثقة بحكومته خياراً أخير ولا توجد ضمانة لنجاح المحاولتين، واللتين قد تفشلان لأكثر من سبب، ومنها 
محاولة جونسون وحزبه تعطيلها برلمانياً، وضيق الوقت، وانقسام الأحزاب البريطانية داخلياً وخلافها مع بعضها بشأن سبل التعامل مع الأزمة. بالإضافة إلى الخوف من تجاهل جونسون قرارات مجلس النواب، أو تحايله عليها، من خلال عدم اتباعها حرفياً، أو تشدّده في التعامل مع الاتحاد الأوروبي بشكلٍ يؤدّي، في النهاية، إلى الخروج من دون اتفاقية.
وهكذا يبدو المشهد غايةً في الضبابية، في ظل سيولة السيناريوهات، ما يستدعي التراجع خطوات إلى الخلف لمعرفة جوهر الأزمة الراهنة وسبل علاجها. وتقول تفسيرات إن الأزمة تكمن في الدستور البريطاني غير المكتوب، والذي سمح لجونسون بتعطيل البرلمان كل هذه الفترة، نظراً إلى غياب نصوص واضحة بهذا الخصوص، وعدم التزام جونسون بالتقاليد البريطانية.
ويربط تفسيرٌ آخر الأزمة السياسية بالسلطات الهائلة التي يمتلكها جونسون، وسمحت له بتعطيل البرلمان من دون أن يوقفه أحد. وسمحت لتيريزا ماي بفرض السرّية على مسودة مشروع الخروج من الاتحاد الأوروبي فترة طويلة خلالها حكمها قبل طرحها على البرلمان، والذي رفضها مرات. كما سمحت لرئيس الوزراء الأسبق، ديفيد كاميرون، بطرح الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي من دون دراسة كافية لتبعاته.
التفسير الثالث أكثر شمولاً، ويرى أن الأزمة قديمة، تعود إلى حالة عدم الثقة بمؤسسات الحكم في النظام البريطاني، بما في ذلك البرلمان والحكومة، فحزب الاستقلال الداعم الأكبر لحملة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي تأسس في أوائل التسعينيات، وصعد سياسياً في أوائل القرن الواحد والعشرين (انتخابات 2006). ونجح في الضغط على حزب المحافظين لعقد استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي في 2016.
جمع حزب الاستقلال حوله الشاعرين بتجاهل الحكومة البريطانية لهم ولهويتهم. وأصل التجاهل اقتصادي، نابع من توحش الرأسمالية الغربية بعد انتصارها في الحرب الباردة، ونقلها كثيراً من الوظائف الصناعية خارج الغرب، مستفيدة من رخص تكاليف الإنتاج في الدول الفقيرة، وتقدم تكنولوجيا الاتصالات، وانفتاح الأسواق العالمية. بناء على ذلك، شعر البريطانيون، وهم المكون السكاني الأكبر في الاتحاد البريطاني (حوالي 85%)، بتجاهل الحكومة المركزية لهم، 
فأغلقت المصانع واختفت وظائف عديدة، وتراجعت الخدمات والمدارس، وخصوصاً في القرى والمدن الصغيرة خارج لندن والمدن الكبرى. وفي الفترة من 1970 إلى 2008 تراجع نصيب قطاع الصناعة من الاقتصاد البريطاني من 32% إلى 12%. في المقابل، زاد نصيب قطاع الخدمات (المتمركز جغرافياً في لندن والجنوب بنسبة 70%) من 16% إلى 32%. وبعد 2008 تفاقمت الضغوط بسبب سياسة الحكومة التقشفية.
وبدلاً من التركيز على الأسباب الاقتصادية للأزمة، أعطت أحزاب، كحزب الاستقلال، المشكلة طابعاً ثقافياً وهوياتياً، وصورتها صراعاً مع أوروبا والمهاجرين. وللأسف، لم يتمكّن النظام السياسي البريطاني من حل المشكلات الاقتصادية أو استيعاب الأصوات والأحزاب الجديدة، فالنظام البريطاني بدأ في تبني عدم المركزية، ومنح الأقاليم سلطات تشريعية في نهاية التسعينيات. ولذا سمح لاسكتلندا ببرلمان، ولويلز بجمعية تشريعية. ومنح مدناً كبرى كلندن عمدة وجمعية تشريعية، وكلها بصلاحيات محدودة. ولم يمنح البريطانيون، وهم المكون الأكبر، برلماناً أو مؤسسات تمثيلية خاصة بهم. ولم يسمح نظام التصويت البريطاني بصعود الأحزاب الصغيرة، بسبب اعتماده على نظام القوائم الفردية وطريقة معينة في اختيار الفائزين. لذا شعر أنصار حزب الاستقلال بأن أصواتهم مهدرة، وأن مؤسسات الدولة لا تمثلهم.
استمرت عدم الثقة بالديمقراطية البريطانية ومؤسساتها في التصاعد حتى الاستفتاء، وتصويت 
البريطانيين، بأغلبية صغيرة للغاية، للخروج من الاتحاد الأوروبي في يونيو/ حزيران 2016. وخلال العامين الماضيين، لم تفعل النخب الحاكمة شيئاً يذكر لعلاج أسباب عدم الثقة، وفي مقدمتها الأوضاع الاقتصادية وإعادة بناء مؤسسات الحكم وقدراتها التمثيلية. بل انشغلت بمحاولة الوصول إلى اتفاق للخروج من الاتحاد الأوروبي. والتي ظلت عصية.
هذا يعني أن أزمة عدم الثقة بمؤسسات الحكم البريطانية مستمرة، وتحتاج سنوات لعلاجها، وتتطلب إعادة بناء أركان النظام السياسي البريطاني، وإعادة توزيع الثروة، بشكل أكثر لا مركزية وعدالة. ولعل قرار رئيس الحكومة تعليق عمل البرلمان البريطاني نفسه، وهو رمز السيادة والديمقراطية البريطانية، حتى لا يعيق مساعيه للخروج من الاتحاد الأوروبي بأي ثمن، هو أكبر دليل على عمق الأزمة واستمرارها، والمستويات التي وصلت إليها.