حكمة أوروبا ورعونة ترامب

حكمة أوروبا ورعونة ترامب

02 سبتمبر 2019

(Getty)

+ الخط -
لما يقرب من نصف قرن، توطّدت الروابط بين أوروبا وواشنطن على خلفية انسجام التوجهات السياسية، واتساق الأطر الفكرية والأيديولوجية، فضلاً عن تشابهاتٍ حضاريةٍ تشمل الأصول الإثنية، والأنساق الثقافية السارية على جانبي الأطلسي. ولم تكن متقابلة "تماسك/ انقسام" المعسكر الغربي، تخطر على بال. حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، وتفكّك المعسكر الشرقي، كان الانفتاح الأوروبي على الدول الشرقية محصوراً في السماح لتلك الدول بالانضمام والاندماج في المنظومة الغربية، مع أقل قدر ممكن من تحمّل أعبائها ومشكلاتها، فبدا الأمر دائماً كما لو كان "الغرب" كياناً متماسكاً متكاملاً، قادرا على الاستيعاب والدمج، وغير قابل للتفكك أو الانقسام على نفسه.
قبل ثلاث سنوات، بدأت الولايات المتحدة الأميركية، أحد الأعمدة الرئيسة في هذا الكيان، تتخلى عن موقع الأخ الأكبر والقوة الأبرز في العالم الغربي، استناداً إلى أن واشنطن تقدّم للعالم والغرب داخله، أكثر مما تأخذ. بالتالي هناك ضرورة لتقاسم الأعباء، وأن يتحمّل كل طرفٍ مسؤولياته.
واشنطن هي التي بادرت إلى الابتعاد عن أوروبا، بل عن العالم كله، بإعمال منطق التجارة وحسابات المكسب والخسارة في أضيق نطاقاتها وأكثرها سطحية، وهو أن لكل شيء ثمناً، والثمن لا يكون إلا مادياً ومالياً على وجه التحديد، وبالدولار لا غيره. ومن هذا المنطلق، شنت واشنطن ــ ترامب، حرباً تجارية على العالم كله، من الصين شرقاً إلى أوروبا غرباً، فجعلت الجميع في حالة دفاع عن النفس، من دون تفرقةٍ بين حليف أو صديق وخصم أو منافس.
أمام هذه النزعة العدائية المستحدثة أميركياً، تجد أوروبا نفسها في حيرة وارتباك، فالاستفزاز والابتزاز الأميركيان ناجمان عن معادلة شديدة السطحية، قوامها أن العدو المشترك الشيوعي قد هُزم. وواشنطن قادرة على مواجهة ما يخصّها من تهديداتٍ جديدة، بما فيها العابرة للحدود كالإرهاب، وعلى كل طرفٍ أن يدفع ثمن أمنه بنفسه. وأعلنها صريحةً أن واشنطن لن تظل إلى الأبد تتحمل تكلفة الدفاع عن أمن أوروبا.
إلى هنا، المنطق الأميركي (الأصح الترامبي) واضح ومباشر. بينما تكمن المشكلة لدى أوروبا، في كيفية التعاطي مع ترامب الأرعن، من دون الانسياق وراء سطحيته أو مجاراته في قصر نظره. لذا تواجه أوروبا مأزقاً حقيقياً متعدّد الجوانب، فهي من ناحية ترى أن العلاقات والروابط مع الأميركيين أكثر شمولاً من التبادل التجاري، وأعمق من معاداة الشيوعية قديماً أو الإرهاب حديثاً، وأن ثمّة مشتركات حضارية وجيواستراتيجية تضع ضفتي الأطلسي في سلة واحدة متمايزةٍ بمسافات، وإنْ كانت متفاوتة، عن بقية شعوب العالم.
صحيحٌ أن النظرة الأوروبية للشخصية الأميركية تتسم بقدر من التعالي، استناداً إلى افتقاد الأميركي "النقاء العرقي" والحضارة والتاريخ، ولكن هذا الأميركي الأهوج (راعي البقر) هو الأكثر قرباً لذلك "النبيل" الأوروبي من الصينيين والروس والأفارقة وغيرهم. وبإضافة الخبرة التاريخية وشواهد الواقع، فإن الأوروبيين ليسوا على استعداد للاستغناء عن العلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة، حتى وإن بدا ذلك الاستغناء ممكناً، بل سهلاً لدى الجانب الأميركي، وفقاً لمواقف ترامب وقراراته وتحركاته.
يمكن بسهولة ملاحظة الحيرة التي صارت ملازمة لمواقف أوروبا من تخبطات ترامب وقفزاته هنا وهناك. ولا تخفي أوروبا استياءها من السياسات الأميركية الحمقاء محدودة الأفق. ولكنها لا تملك الاندفاع في الجهة المقابلة، لذا يتريث الأوروبيون في التنسيق مع الصين، لمواجهة حرب ترامب التجارية على العالم. ويقفون في نقطةٍ وسيطةٍ بين واشنطن وطهران، ويتململون في صمتٍ من الكيمياء الشخصية بين ترامب وبوتين.
وما لا يقوله الأوروبيون إنهم قادرون على ردع ترامب وتحجيم سياساته وحساباته الضيقة. ولكنهم إن فعلوا، سيجارون ترامب في رعونته. وأوروبا أكثر حكمةً وحنكةً من الرد على الحماقة بمثلها.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.