حاجة العرب للعقل النفعي

حاجة العرب للعقل النفعي

05 اغسطس 2019

(إبراهيم الصلاحي)

+ الخط -
ليس كل حديث عن العقل أو يتوسل العقل هو حديث عقلاني، والمثال الأشهر على الاتساق العقلي لبرهنة ما هو غير واقعي هو مثال اليوناني زينون في سباق أخيل والسلحفاة، فإذا كانت السلحفاة تسبق أخيل بخطوة، فإنه يستحيل على أخيل أن يسبق السلحفاة، وبتقسيم الخطوة إلى أجزاء لا نهائية على أخيل أن يقطعها ليسبق السلحفاة، فإن الأخيرة تقطع جزءاً من الخطوة، بحيث تبقى السلحفاة متقدّمة على أخيل. يمكن المحاججة بصحة نظرية زينون باستخدام أدوات عقلية، ولكن هذه المحاججة لم تستطع أن تصمد أمام التجربة الواقعية.
قصدت من مثال زينون الفج توضيح أنه يمكن استخدام العقل لبرهنة ما هو غير واقعي، بمعنى أن توظيف العقل لا يكون بالضرورة متوجهاً إلى خدمة تقدّمه، فمن الممكن توظيفه ضد الأهداف المستقبلية المنتجة، فقد تستخدم كلمة العقل بصورة مكثفة في تراث معين، ولكن ليس كل استخدام لهذه الكلمة يحيل إلى مفهوم العقل كما تم توظيفه في تجربة العقلانية الغربية الحديثة، فالعقل في هذه التجربة يتحدد بثابتين، رافقاه خلال تطوره التاريخي: العلاقة المباشرة بين العقل والطبيعة، وقدرة العقل على كشف أسرار الطبيعة، فيتوجه إليها مباشرة، فمعقولية موضوعية يجب اختبارها في الواقع للتأكد من النتائج. وبالتالي، هل تؤدي الوسائل المستخدمة للوصول إلى النتائج المتوخّاة، فالمعقول هو الطبيعي، ولذلك لا وجود لشيء خارق للطبيعة من الممكن اعتماده للإجابة على الأسئلة التي تطرحها الطبيعة، فمهمة العقل هي إدراك الأسباب للوصول إلى النتائج المتوخّاة، وهو القانون المطلق، والعلاقة بينه وبين الطبيعة هي علاقة مطابقة، وهذا التطابق يتوقف على ما تعطيه التجربة للعقل، وما يجدد به العقل معطيات التجربة، فكلاهما شاهد على الآخر. وقد أدى تقدّم العلم إلى النظر إلى العقل بوصفه فعالية، بحيث لم يعد ينظر إلى العقل بصفته مطابقة للطبيعة فحسب، بل أصبح بالإمكان الاعتماد على النشاط العقلي لبناء منظوماتٍ نظريةٍ تشمل مختلف الظواهر، يمكن التحقق منها تجريبياً، ما جعل العقلانية المعاصرة تتصف بأنها عقلانية تجريبية.
يبدو الكلام الذي سقناه نافلاً، فهو يقرّ وقائع معروفة، وأعتقد أن المشكلة في هذه الوقائع 
المعروفة ذاتها، أو بالأصح بالموقع الذي ينظر منه إليها. ومن السهل لأي مطلعٍ متعمّقٍ في التراث العربي ـ الإسلامي، أو حتى صاحب معرفة سطحية، أن يحشد عشرات الشواهد على استخدام العقل، والتأكيد عليه في هذا التراث. ولا يمكن الصمود في مواجهة دلائل استخدام العقل في هذا التراث، ولا يمكن نكران أنه مفهوم مركزي، ولكن عن أي عقل نتحدث؟
في كتابه ضمن سلسلة المفاهيم التي كتبها، "مفهوم العقل"، يشكك عبد الله العروي في جدوى هذا النوع من الكتابة الذي مارسه وآخرون في المشرق والمغرب، والذي اعتقد أنه من خلالها يستطيع أن يحدّد الوضعية التاريخية، وهل ما نقوله عن أنفسنا يتساوق مع الأهداف المعلنة، وينطبق على الواقع، إلا أنه يعترف بأنه كان متفائلاً أكثر من اللازم، وأن هذه البحوث لم تؤد دورها المطلوب، فهو يتوقف عند هذا الحد من البحث عن تحديد المفاهيم، ويبرّر ذلك بأن الاستمرار يؤدي إلى التكرار، لأن ما كتبه في سلسلة المفاهيم يمثل فصولاً في مؤلف واحد حول مفهوم الحداثة.
يظهر اليأس جلياً في خاتمة الكتاب، ويضع كل الأعمال التي حاولت استلهام الحداثة ومفاهيمها موضع الشك بإمكانية اكتسابها فعالية في السياق العربي، وفي مقدمة هذه المفاهيم "العقل"، فهو يرى أن العقل الذي نتكلم عنه باستمرار، في السياق العربي، تصريحاً أو تلميحاً، مفهوم نظري، حتى عندما ينطبق على السلوك، ما نسمّيه العقل العملي. نتكلم عندئذ على نظرية الأخلاق، لا على نظرية العادات. نبرّر الواجب منها، فلا ندرك الملاحظ. نسمي أخلاقاً الأفعال الخاضعة لقواعد مفروضة، وإن ناقضت المصالح المتعلقة بها، بل لا تكون أخلاقيةً إلا بالنفي والمعاكسة، وهو ما يطلق عليه "عقل المطلق"، والذي يؤدّي حتماً إلى عدم التمييز بين مفهومين (عقل الاسم وعقل الفعل). فهو يقول العقل فعّال بطبعه: يقول ذلك بعباراتٍ متباينة، الحكيم والمتكلم والمتصوف والفقيه والمحدث. يختلفون حول العبارات والأحكام، أما التصورات والتوجهات فهي واحدة. والعقل عندهم جميعاً تأويل، فهو عقل الأمر والاسم، والعلم هو فقه الأوامر. وما سُمّي الواقع واقعاً إلا لأنه وقع من أعلى، وكان ثنياً على بدء.
يقود هذا التحليل إلى التمييز بين عقلين: أحدهما يهمّ الفكر وحده، هدفه النظر في شروط التماسك والاتساق، والثاني يهم السلوك أو الفكرة المجسدة في فعل، هدفه النظر في ظروف مطابقة الوسائل للأهداف المرسومة. الأول عقل المطلق، والثاني عقل الواقعات، أفعال البشر المتجدّدة. وهنا الفرق الجوهري والقطيعة الجوهرية بين القديم والحديث. ويحدّد مفارقة العقل في آخر التحليل، بوصفها تناقضاً بين العدّة الذهنية والواقع الاجتماعي. والمطلوب، حسب 
العروي، للخروج من هذه المفارقة، الحسم بالتمرّن على منطق الفعل، حتى لا ينقلب العقل إلى لاعقل.
مع العروي، نعود مرة أخرى لنكتشف أنه بتوظيف ما هو مجد، وهذه المرّة مفهوم "العقل"، لا نحصل من على المتوخّى، بل نعود إلى عدم الجدوى، نندهش أمام الكم الكبير من الكتابات عن العقل والعقلانية، والتي تبقى عاجزةً عن أداء وظيفتها، أو أنها تعيد إنتاج مفاهيم العقل القديمة بأساليب حديثة. ولأنها سعت إلى إنتاج اتساق ذهني لمتطلباتها وأدواتها الذهنية بقيت العقلانية العربية عالقة في إشكالها بلا إنتاج أي مردود واقعي. وعلى الرغم من أزمتها العالقة في إطار ذهني لم تستنتج أن المطلوب منها الخروج من أسر الدائرة الذهنية، والوقوف على المنجزات التي تفرزها العقلانية في الواقع. حيث أخذ بعضٌ قليل يؤكد على أهمية الأهداف، متجاوزاً الاتساق النظري، منها مساهمة عبد الله العروي التي مرّت معنا، ومنها أيضاً مساهمة فهمي جدعان في "الطريق إلى المستقبل"، فالعقل المنفعي، وهو مفهوم مرذول في الثقافة العقلانية العربية، هو ما يجب إعادة الاعتبار له، ولا يمكن الحكم على جدوى الأدوات الذهنية، من دون الوصول إلى نتائج تؤكّد شرعية هذه الأدوات. وتشريع العقل النفعي وحده القادر على ردم الهوة التي نراها كل يوم أمامنا، حيث السلوك المنفصم عن إطار تبريره العقلي والنظري.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.